يَا أمَّةً ضَحِكَتْ مِنْ جَهْلِهَا الأُمَمُ!!

بدايةً… أجدُني مضطراً للعودة إلى هذا الموضوع، الذي طرقتُه من قبل، لأن ما قلتُه بشأنه لم يشْفِ غليلي، ولأنني ما زلتُ ومعي أبناء هذه الأمة البائسة والبئيسة، المسماة إسلامية، والصواب أن تسمّى “مسلمة” فقط لا غير، لأن بينها وبين “الإسلام” أوسع وأفسح مما بين السماوات والأرض…

 كنت أقول: إنني مازلت أشاهد وأستمع لشيوخ ملتحين وفقهاء مبجّلين وخطباء مُلَسَّنين يتكلم الواحد منهم، أقصد منهم جميعاً، فلا ينتبه سوى إلى نفسه، وطَرْحَتِه أو عِمامته، وإلى رأيه، وفرقته أو حزبه، سُنّياً كان أو شيعياً، زيدياً أو عَمْرِياً حتى لا أتوه في ذكر عشرات بل مئات بل آلاف الفرق وفروع الفرق وفروع الفروع… وهلمّ تشتيتاً وتفريقاً تحت راية الدين الواحد، وكلهم فَرِحٌ بما لديه، وكلهم يُكَفِّرُ غيرَه أو يُزَنْدِقُه، وفي كل الحالات يُقصيه!!

نعم… لا ينتبه المتكلم المتحذلِق من بين جميع شيوخ هذه الأمة وفقهائها إلى أن ما يقوله إنما يزيد المسلمين تَفَرُّقاً وتشيُّعاً، ويزيد الهوة فيما بينهم اتساعاً وشساعةً، وكلهم يعلم أن رب العزة ذَمَّ ذلك واستنكَرَه وشبه مُرتكبيه بالمشركين في تنزيله الحكيم، وأن نبيَّه الصادقَ الأمينَ، بعد أن بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة بالتمام والكمال، كدّ واجتهد من أجل جمع الكلمة، ولملمة الصفوف، وتوحيد القلوب والأفئدة لتكون أمّتُه على قلب رجل واحد، ولأجل ذلك بُعث بينهم بالذات، وإلا لكانوا استمروا على ما دأبوا عليه قبل البعثة من التنازع والتناحر لِعشرات السنين من أجل الثأر، أو من أجل الاستئثار بواحة صغيرة، أو ببئر على وشك النضوب، أو من أجل نخلةٍ في قِيعة… وحربَا “داحس” و”الغبراء” تشهدان على ذلك!!

لماذا انقلبت هذه الأمة على أعقابها بمجرد مغادرة نبيّها الحياة، نكايةً في النهي القرآني الربّاني عن السقوط في وحل ذلك الانقلاب الشيطاني، وهو القائل: “… أفئن مات أوقُتِل انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين” (آل عمران-144). 

كيف إذَن سيشكر اللهَ مثلُ هؤلاء الشيوخ والفقهاء وزعماء الفرق والشِّيَع… وهم يزيدون في تسعير نيران الجفاء والتنافر بين كل خطبة وخطبة، وبين كل درس وآخر، ومحاضرة وأخرى… بلا أدنى استثناء لأحد منهم إلا من رحم ربك… وأنَّى لهم ذلك وقد وقعت فأس هؤلاء المفرّقين والمشتّتين وأسلافهم في رأس الأمة برمتها منذ وفاة مُرشِدِها وراعيها؟!

يحضرني هنا بالمناسبة، أن المرحوم دكتور عبد الهادي بوطالب بمجرد تنصيبه مديراً عاما بالمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، وقد كنتُ ساعتئذ رئيسَ ديوانه، أعلن عن مشروعٍ له كان حقّاً علينا آنئذ أن نفتخر به كمغاربة، يتمثّل في عزمه على بذل ما في وسعه لجعل هذه المنظمة تأتي ما لم يأته أحد من قبل، ألا وهو “توحيد فقه المذاهب الأربعة”، وكان رحمه الله واسعَ الثقة شديدَها في سعيه إلى هذا المطلب، مدعوما بجلالة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه، لولا أنه لقي مقاومة، بل مقاومات شديدة وشرسة، من لدن مجامع ومعاهد ومراكز علمية وإفتائية في بلدان “مسلمة يا حسرة” مختلفة، وعلى رأسها بلدان “الشرق العربي البائس”، كما يُسَمّيه الباحث السوري دكتور “الرمح” في دروسه ومحاضراته، لينتهي الأمر ب”السي عبد الهادي” إلى ترك مشروعه الراقي في يد الله، كما كان يقول ويردد، عسى الله ان يفعل به ما يشاء!!

كان رحمه الله شديد الأسى والأسف ليس لِتَعَذُّر تحقيق ذلك المشروع، العظيم مَقْصِداً وغايةً، ولكن لِشدة ما لمسه من المعارضة والممانعة من لدن “زعماء” و”شيوخ” و”فقهاء” و”علماء” ليس لهم من الزعامة والمَشْيَخة والتفقّه والعلم إلاً محضُ أسماء وألقاب، هي في غير محلها بتحصيل الحاصل وبكل المقاييس!!

تعالوا الآن نستعرض بعض مظاهر ظلمنا وبغينا وهواننا بين الأمم، وخاصة التي يُسَمّيها فقهاؤنا أمماً كافِرةً ومُشرِكةً ومُلحِدة:

* نحن الأمة الوحيدة التي لم تستطع أن تُراجع تقويمها الزمني، المُعْوَجّ، رغم تَفَطُّنِ مُفكريها إلى الخطأ الفظيع الذي جعل عامَنا القمري ينزلق من موقعه في “خرائط الزمن الأرضي”، فتنزلق معه الفصول الطبيعية خارج عامِنا “الهجري”، وليس داخله، وتنزلق أيضا من جرّاء ذلك “الأشهرُ الحُرُم”، التي حرّم الله فيها الصيد البري لمواكبتها فترةَ “الراحة البيولوجية” لدى الحيوانات البرية (لمن يقولون إنها “سُمِّيَت حُرُماً لحُرمةِ القتال فيها”، أذَكِّرهم بأن الله قال “إنّ عدة الشهور عنده اثنى عشر شهراً منذ خلق السماوات والأرض منهن أربعة حرم”، وبالتالي فعلاقة تلك الأشهر قائمةً وثابتةً بفترة الراحة البيولوجية وليس بقتال الناس بعضهم لبعض لأنهم لم يكونوا موجودين تَزامُناً مع خلق السماوات والأرض) المهم، أن ذلك أدى إلى انقراض تلك الكائنات البريئة داخل المجالات الترابية لهذه الأمّة، لأن فقهاءَنا الذين أفتوا على الخليفة عمر بأنْ يلغي “العمل بالنسيء” فهموا فهماً باطلا الآية الكريمة والبَيِّنة: “إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ” (التوبة-37).

 ذلك أن فقهاء العهد العُمَرِيّ فصَلوا الآية عن أواصِرِها، كما فعلوا دائماً وأبداً، وذاك دأبهم في تعاملهم مع آيات التنزيل الحكيم، ومازال خَلَفُهُم فاعلين، فقرأوا بدايتها فقط “إنما النسيء زيادة في الكفر”، فأفتوا بإلغاء “النسيء” لأنه “زيادةٌ في الكفر”، فأنصَتَ إليهم الخليفة في استسلام تامٍّ من الغريب أن يصدر عن عمرَ بنِ الخطابِ بالذات، وهكذا بدأنا نصوم تارةً صيفاً وتارة خريفاً وطوراً شتاءً وطوراً ربيعاً، بلا أي ضابط من الطبيعة أو الفضاء الكوني،  أقصد المنظومة الشمسية التي ننتمي إليها، والتي يبدو أننا منذ ذلك العهد فقدنا الصلة بها في تَجوالنا الغريب عبر الفصول، فشاهدنا ربيع الأول والثاني منفصلَيْن عن فصل يحملان اسمَه وَصِفَتَه، وعشنا رمضانَ الذي كان ثابتاً على “الرمضاء” وقد سُمِّيَ عليها، والتي تعني نهاية الصيف وبداية الخريف، بين سبتمبر  وأكتوبر، وهو يتنقل بين شهور السنة الشمسية كأي زائر غريب أو مُهاجِر بلا بوصلة وبلا مأوى!! 

هكذا، وبجرة أقلامِ فقهائنا الذين لم يقرأوا القرآن حق قراءته، صِرنا منفصلين عن عصور نَمُرُّ الآن بجانبها دون أن نأخذ منها غير هَزيلِ الذكرى!! والأدهى من ذلك أن الشيوخ والفقهاء والمفسرين، الذين يموتون حبا ووَلَهاً في دعوتنا لهم ب”حُذّاق الأئمة”، ليسوا قطعاً حاذقين لأنهم لا يلتفتون لهذا المصاب ولا يلقون بالاً لآثاره الوخيمة، وكلُّ همّهم أن يَحُفّوا اللِّحَى، ويضعوا السِّواك والإثمد، ويحتفوا بطَرْحاتِهم وعِباياتهم وهِندامهم عبر الفضائيات وعبر النت، وفي وسائل التواصل التي فَتحتها في وجوههم العبوسة هواتفُهم الباهظة، والبقية يعلمها الخاص والعام ولا حاجة لنا فيها إلى إطناب!!

* نحن الأمة التي لا تُنتج المعرفة، ولا تعلم السبيل إلى إنتاج المعرفة، لكنها تتشدق باستهلاك معارف الأغراب، ممن تصفهم بالكفر والشرك والإلحاد، تلبس ما صنعوه من رفيع القماش، وتُزَيِّن مَعاصِمَ شيوخها وأعلامها بساعاتهم، وطُرُقَها وشوارعَها بمركباتهم وسياراتهم الفارهة، التي يتنافس على امتلاكها بأغلى الأثمان كبارُ وجهائها وأثريائها و”علمائها”… أمّة تتواصل فيما بين زعمائها وقيادييها بهواتف صنعها أولئك الأغراب فيسجل هؤلاء وينقلون عنها بالصوت والصورة كل صغيرة وكبيرة بينما هي عن كل ذلك غافيةٌ غافلة… أمّة ولا كل الأمم!!

* نحن الأمة التي اتّفقت على أمر واحد لا ثاني له: وهو “ألاّ تتفق”،  ولذلك أفلحت في تحقيق إنجازٍ واحدٍ لا ثانيَ له هو الآخر: أن تُفرِّخ أسباب الخلاف الفكري والعَقَدي، ودواعي الاختلاف والتفرقة والتحزّب في كل المناحي وبلا هوادة، ولذلك فهي دائما وأبداً أكثر الأمم من حيث عددُ المذاهب والشِيَع والفِرَق والأحزاب والطرائق والزوايا والإخوانيات وضاعِفْ ما شئتَ من هذه الغصون ولا حَرَج!!

* نحن الأمة التي تَنَزَّلَ عليها كتابُ هدايةٍ يُحذّرها وينهاها عن إعادة إنتاج تجارب السابقين الفاشلة والغاوية، ولكنها لم تأخذ من الخيارات إلا خيار إعادة إنتاج تلك التجارب بالذات، فتركت كتابها مُلقًى وراء ظهرها، وصنعت لنفسها آلافاً مؤلفة من المخطوطات والكتب والمؤلفات فيما لا يُفيد ولا ينفع، ففسرت آيات الكتاب تفسيرا يُحرّفُه عن مَواضعه، وفبركت روايات حلّت محل النص المنزّل بعد أن قالت فيه بالنقص، ثم بالنسخ، فزاد ذلك أبناءَها تشتيتاً وتفريقاً، وكل حزب دائماً وأبداً بما لديهم فرحون!!

  * وأخيراً وليس آخراً، نحن الأمة التي، رغم ادّعائها الاستئثار بالإسلام والإيمان، تتشكّل برمّتها من ملايين الكفار والمشركين والمارقين بناءً على أحكامٍ قيميةٍ ومتعسِّفة يُطلقها أبناؤها على بعضهم البعض، حتى لم يعد النفر الواحد منهم يَدري مَن بيده طوقُ نَجاة، ومن يحمل فكرُه ومنهاجُه دليلَ خَلاص!!

أيْ نَعَم… نحن الأمة التي تصف ذاتها بأمة الخلاص، وبكونها “خير أمة أخرِجت للناس تأمر بالمغروف وتنهى عن المنكر”، ولكنها في مجملها إلا من رحم ربّك، لا تدري ما المعروف وما المُنكَر، ولذلك خرجت من رحمها جماعات إسلاموية إجرامية تدّعي الاستئثار بمهمة الأمر والنهي، فقتلت الأبرياء، ويتّمت الأبرياء، ومازالت تفعل في الخفاء، إن لم يعد ذلك متاحاً في الظاهر الجليّ نظراً لتكاتُف الشرق والغرب وإجماعِهِما على محاربة ذلك الإرهاب!!

ويبقى السؤال حارقاً، ومُهيناً، وهاتِكاً للعِرض والكرامة: “هل نحن حقاً خير أمة أخرجت للناس”، أم أن الآية تعني جنساً بشرياً آخر لا تجمعنا به أدنى صِلةٍ أو قرابة؟!!

   بقلم الأستاذ عبد الحميد  اليوسفي