عندما ينطق شيخ المَشايخ عن الهوى!

بقلم الأستاذ عبد الحميد اليوسفي
————————–
كم تمنيت ألاّ أكتب ثانية في هذا الضرب من الموضوعات المثيرة للصداع النصفي، وأحياناً لموجات عارمة من القلق والأرق، لأنها تقدم لنا مواقف مستفِزة إلى درجة لا يقدر على الصبر أمامها إلاّ فِدائيٌّ كَرِهَ الدنيا وما فيها، أو باحثٌ عن الموت كمداً من شدة الصبر وهَوْلِ المُصابَرة!!

الموضوع وما فيه أن هذا العبد الفقير إلى عفو ربه وجد نفسه مساء أمس، مرة أخرى وعن طريق الصدفة، أمام “الفتى الأزهري” عبد الله رشدي، الذي “نظمتُ” في ذمّه مقالين اثنين أو ثلاثة، لا أذكر بالتحديد، والذي أقسمتُ بكل الوضوح الممكن أنني اعتبره أجهل مُناظِر في المعمور، وزدتُ على ذلك بأنه، رغم كونه المتحدث الرسمي باسم رئاسة الأزهر، فإنه لا يفرّق بين مقامَي الرسالة والنبوّة، ولذلك يؤكد بأن رب العزة “أمرنا بطاعة النبي”، وبأن النبي “لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى” بدليل هذه الآية من سورة النجم، بينما العالَم كله، بمن فيه الكفرة، والملحدون، والمشركون، المعلِنون جميعُهم لكُفرهم وإلحادهم وشِركِهم بالله، ومع الله، يعلم أن القرآن في هذه الآية يتحدث عن “مقام الرسالة” تحديداً، وبالتالي عن “محمد الرسول”، المكلف من لدن ربه بالتبليغ فقط لا غير؛ وليس عن “محمد النبي”، رئيس الدولة، والمُربّي، والداعية، والتاجر، والجار، والصديق، والزوج والقائد… وشتان ما بين مقام إنساني بشري معرّض لبعض آفاتِ البشرية ونقائصها؛ ومقام تحققت فيه العصمة من الخطأ ومن النسيان لقول الله تعالى: “سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى” (الأعلى-6)، وقوله عز وجل: “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ” (المائدة-67)… ولم يقل “يا أيها النبي” في هذا المقام المعصوم، ولكنه قالها حين تطلّب الأمر عتاباً وتصحيحاً وتصويباً في مقام النبوة، لأن هذا المقام غيرِ متمتِّعِ بالعصمة، فجاءت الآية: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رحيم” 

(التحريم-1) !!

في هذا السياق ذاته، لم يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنينَ بطاعة النبي مطلقاً، لأن طاعته في مقام النبوة متروكة لتقدير المؤمن ولِحُرّيته في الاختيار، وإنما أمر عز وجل بطاعة الرسول، لأن الرسول لا يقول كلاما من عند نفسه، وإنما ينطق بما أوحِيَ إليه من رسالة ربه بلا زيادة أو نقصان، على الإطلاق… وفي ذلك بالذات كانت طاعته ولا تزال إلى زمان الله هذا واجبة وفرض عين على كل مؤمن ومؤمنة، نُطيعه من خلال رسالته الخاتم: “الكتاب الحكيم”…

ينتج عن هذا التمييز، الذي عجز عن فهمه وما زال يعجز عن استيعابه وتَمَثُّلِه ذلك الفتى الناطق باسم الأزهر، أنّ كل ماجاء به محمد في مقام الرسالة، أي كرسول، من الوحي الإلهي، فهو مناط الطاعة التامة بلا جدال أو مماهاة، لأن النص ربّاني المصدر، وبالتالي فاتّباعه أمر أبدي لا محيد عنه إلى يوم الدين؛ وبالمقابل، فما جاء عن النبي سواء صح عنه أم لم يصح، من خلال الروايات المتعددة والمختلفة، فبعضه ينطق بالحكمة فوجب الأخذ به، وبعضه الآخر وجبت إعادة قراءته لأنه ابن بيئته وزمانه ومجتمعه، وابن قضايا ذلك العهد وتلك البيئة وذلك المجتمع، ولا يمكن مهما حاولنا أن نجعله في “مثل ثبات النص الرِّسالي”، لأننا متى أقررنا بثباته فإننا نكون قد وضعناه على قدم المساواة مع الكلام الإلهي، وهذا غيرُ واردٍ شرعاً ولا عقلاً ولا منطقاً، بل هو مردودٌ بالبداهة لأنه محضُ شِرك!! 

هذا التمييز بالذات، هو الذي وضعني مرة أخرى في الخندق المقابل والمعاكس لموقع ذلك الفتى وموقفه اللذين لم يستطع لجهله المدقع أن يدرك أبعادهما، ولم يجد الجرأة لجبنه الواضح والفاضح أن يجعلهما موضع مراجعة أو أخذ ورد، لأن ذلك سيفقده منصبه ويُفسِدُ عليه امتيازاتٍ لا يستحقها بكل تأكيد… ولذلك وجدتُه بالأمس أيضاً، وكما كان منذ أوّل ظهور له ناطقا باسم الأزهر، واقفاً نفس وقفته الخُيَلائية معتدّاً بوسامته وهندامه ومظهره المعتَنَى به بإفراط ظاهر، وهو يرطن بنفس الهرطقات، ونفس الأحكام التي لقّنه إياها شيخه، الذي لا يقلّ عنه تَصَلُّباً في الرأي، وتعنُّتاً في التعبير، وكيف لا، وهو الشيخ الذي قال وما زال يقول “إن السنةَ ثلاثةُ أرباع الدين وإن القرآنَ رُبعُه الباقي”… وأعتذر منكم لاضطراري بين المقال والآخر إلى التذكير وإعادة التذكير بهذا الموقف، الذي يتناغم مع مقولة “نسخ السنة للقرآن”؛ والذي أعتبره شخصياً في غاية الدونية والخِزي… وسأكون بلا ريب ممن سيختصمون أمام رب العزة مع هؤلاء المُتَفَوِِّهين بهذه الخبائث!!!

ويبقى السؤال حارقاً ومؤرِقاً: كيف السبيل إلى معالجة هكذا مرضى وهم يعتقدون أنفسهم أصح من الأصحاء؟!! 

بقلم الأستاذ عبد الحميد اليوسفي