تفاسير باطلة.. ولكنها  “مقصودة” بكل تأكيد !!

“مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ”. (البقرة – 106).

لو طُلِب مني أن أفسر هذه الآية البيّنة لخالفتُ كل التفاسير التي ينوء التراث بحملها، من جرّاء ثُقل المسؤولية المترتبة عن أي تحريف لمراد الله في هذه الآية…. وقد حرّف المفسرون من السلف ذلك المرادَ الربّانيَّ لأسباب لا تخفى على أحد من أهل هذا العصر الحديث على الخصوص، وأعتقد بكل تواضع أن المسؤولية فادحةٌ إلى أقصى الحدود، لأن حامليها المذكورين شَرْعَنوا بتفاسيرهم غزواتٍ لم ينزل الله بها من سلطان، داوم عليها الخلفاء المتعاقبون على السلطة، منذ وفاة الرسول، إلى غاية سقوط الخلافة العثمانية وما تلاها من الانهيار البنيوي لدولة الخلافة، أما الانهيار الفكري والمذهبي فقد تحقق بعد وفاة الرسول مباشرة، وعلى أيدي خلفاء راشدين قَتَل بعضُهم بعضاً، وأمروا، كلٌّ منهم في عهده، بقتال المسلمين بعضَهم بعضاً، ويكفي أن التاريخ أحصى في معركة واحدة في عهد الخليفة علي بن أبي طالب، أظنها “معركة الجمل”، مَقْتَلَ أزيد من سبعين ألف مسلم بأيدي مسلمين، فيا للفجيعة!! 

وإنّ ما حدث بعد ظهور بني أمية وبني العباس يقدّم لنا أوفى تبرير للتفاسير سالفة الإشارة، والتي مِن اخطر ما شرعنته وقطعت به أن آيات الذكر الحكيم “يُلغي بعضُها أحكامَ بعض”، (القول بالناسخ والمنسوخ) رغم بقاء الآيات الملغاة قيد المصحف، ويمحو بعضها الآخر رسومَ بعضٍ دون أحكامِها، التي قضوا ببقائها قائمة وقيد التطبيق رغم ذهاب رسومها، وجعلوا فئة ثالثة من الآيات تُلغي آيات أخرى رسوماً وأحكاماً… وكل ذلك، من أجل خدمة توجهات سلطوية اقتضى أصحابُها، أو مُنَظِّروها، أن تَنمحِيَ من الذكر الحكيم كلُّ الآيات الداعية إلى الرحمة، وإلى نشر دين الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، وبالدفع بالتي هي أحسن، واستبدال ذلك بغزوات سبق القول ذات مقال سابق إنها زرعت بذور الضغائن والأحقاد تجاه المسلمين من لدن أمم وشعوب دّكّت حصونُها، وهُدِّمت كنائسُها وبِيَعُها ومَعابدُها، وُأُهدِرْتْ كرامةُ نِسائها، وبِيعَ أطفالُها في أسواق النخاسة بعد أن كانوا أحراراً أبناءَ أحرار… وكل ذلك، باسم الفتح الإسلامي، ورسالة الإسلام مِن كل ذلك بَراء، ومن أجل ذلك، بالذات، نشأت “الإسلاموفوبيا” على امتداد قرون خلت!!

من أجل شَرْعَنَةِ هذا البغي إذَنْ، فسّر المفسرون الآية أعلاه بكونها “حُكماً إلهياً قطعياً بإلغاء أحكام إلهية قطعية كما تُلغى أحكام البشر”، ومن جراء ذلك وقع “تأليه” آية السيف، كما سمّاها هؤلاء وشيوخُهم ومعلّموهم: “فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” 

( التوبة – 5)… فنسخوا بها، بمعنى النسخ المقلوب الذي صنعه هؤلاء، أكثر من مائة وعشرين آية تدعو إلى السلم والتعايش، والمعايشة والمساكنة، وبرر بعضهم ذلك بضرورة الحفاظ على هيبة دولة الإسلام، والحفاظ على الدين القيم، والدين القيم في غيرما حاجة لمن يحافظ عليه، لأنّ ذلك تعهّد به الديّان جل وعلا، ولا احد غيره يمكن أن يكون مَنوطاً بحفظ الدين وحفظ تنزيله الحكيم، فأين يذهبون؟!!

وأعود إلى التفسير الأصوب للآية التي اسْتُهِلَّتْ بها هذه المناقشة المتواضعة، لنلاحظ على الخصوص ما يلي:

أولاً: أن ورود فعل “نسخ ينسخ” متبوعا بفعل “أنسى يُنسي” إنما يدل على “المُغايَرة”، بدليل ربطهما بالحرف “أو”، الذي يفيد اختلاف المعنيين كما يفعل حرف “واو” العطف، وبالتالي فلا يعتقد عاقل وذو لُبٍّ أن الفعلين معاً يرميان إلى معنيَيْن متماثلَيْن، لأن ذلك سيجعلنا أمام تعبير ركيك وفي غاية العبث مفاده مثلاً: “ما ننسخ من آية أو ننسخها” أو بتعبير آخر مُشابِه: “ما نُنْسِ من آية أو نُنْسِها”، أو أيضاً بتعبير ثالث لا يقل عَبَثاً: “ما نَمْحُ من آيةٍ أو نَمْحها”!!!

ثانياً: أنّ هذا ينتج عنه أنّ فعلي “النسخ” و”الإنساء” يعنيان “التثبيت” بواسطة “استنساخ” الآية المراد تثبيتُها وإبقاءُ العمل بها، و”الإلغاء” بواسطة “إنساء” الآية المراد إلغاؤها ووَقْفُ العملِ بها، وهذا بالذات هو ما حققته المشيئة الإلهية بين آيات أنزلها الله تعالى على أنبياء سابقين، وجعلها حاضرة في التنزيل الحكيم، مثل الوصايا العشر، وآيات أخرى اقتضت المشيئة الإلهية تغييرها بالإلغاء أو الاستبدال، مثل مباحات كثيرة وردت في التنزيل الحكيم بعد ان كانت في الرسالات السابقة من قبيل المحرمات، أو العكس، وذلك من قَبيل اختلاف المناهج والشِّرعات بين الرسالات، وكذلك بين الأقوام المخاطَبين بها!!

  ونعود مرة أخيرة إلى الآية 106 من سورة البقرة، لنجد معناها الصواب أن الله عز وجل يثبّت بعض الآيات بين الرسالات وبين بعثات الأنبياء والرسل، ويُغَيِّر أخرى أو يُعَدِّلُها أو يأتي بأحسن منها تبعاً لتطور العقل والفكر والفهم، وكذلك كان الشأن بين أقوام مادية وجودية لا تستوعب سوى الملموسات، وأخرى قادرة على التفكير المجرّد وعلى الإيمان بالغيبيات، وفي ذلك بالذات اختلف بعض الآيات السابقة عن بعض نظيرتها اللاحقة، دون أن يكون للأمر أدنى علاقة، على الإطلاق، بمحو آحكام إلهية سابقة بأخرى لاحقة داخل المصحف ذاته، وكأنّ رب العزة يحكم، ويأمر، ثم يراجع أحكامه وأوامره كما يفعل البشر، سبحانه وتعالى عن ذلك مطلق العلوّ!!!

والأدهى من كل ما تقدّم، أن تلك التفاسير الباطلة، لهذه الآية بالذات، فتحت المجال على مصراعَيْه “للقول بنسخ الروايات للآيات”، وجعلت ملايين الأنفس تُزهق ظلماً وعدواناً تحت مسمّى الفتوحات الإسلامية، وملايين أكثر فأكثر تُسْبَى، أو تُستعبَد، أو تباع في أسواق النخاسة… وكل ذلك، بمجرد جَرّات أقلام “شيوخ” و”فقهاء” و”علماء” يقوم بينهم وبين “المشيخة” و”الفقه” و”العلم” مقدارَ ما هو قائمٌ بين السماء والأرض!!

نحن هنا، الآن ومنذ نحو ثلاثةَ عشرَ قرناً، معلَّقون في غياهب مأزق في غاية الصعوبة والانسداد… فأين المخرَج… وأين المَفَرّ؟!!

بقلم الأستاذ عبد الحميد اليوسفي