بعيدا عن السياسة وعن النقاش المذهبي.. قريبا من الفيزياء والفلسفة!!

في الواقع، سوف أنطلق في هذا المقال من النتائج المُبهِرة والمُذهِلة التي انتهى إليها المسبار الفضائي العملاق، “دجيمس ويب”، الذي انطلق في الثامن والعشرين من ديسمبر 2021، متجاوزاً أخاه الأكبر، غير الشقيق، التيليسكوب “هابل”، الذي كان قد انطلق في الرابع والعشرين من أبريل 1990، ومتخطياً إياه بآلاف الأضعاف!!

غير أنّ الذي يهمنا هنا ليست معادلات الفيزياء والرياضيات التي استنطقها هذا المسبار من فُسْحَة الفضاء الكوني بتعقيداتها التي يصعب علينا فهمها، فبالأحرى فك شفراتها، وإنما الذي يهمنا هو ذلك اللَّيُّ المُبْرِحُ الذي مارسه وما زال يمارسه “دجيمس ويب” على أذرعنا جميعا، علماءَ وأدباءَ وصحافيين وفضوليين على السواء، لدفعنا إلى إعادة النظر في قناعاتنا المتجذّرة في وعينا الجمعي، وذاكرتنا الجمعية، والتي صار لزاما علينا الآن أن نَسِمَها بالقناعات “السابقة” لأن أخرى “لاحقة” توشك أن تَحُلَّ مَحلًها!!

وإذا كان هذا أمراً واقعاً ويصعب بالتالي القفز عليه في مجال في منتهى الدقة، كالفيزياء والرياضيات، فماذا بِوُسْعِنا أن نفعله في مجالات فكرية معرفية فضفاضة، وملتبسة، كالفلسفة بشكل خاص، ما دامت الفلسفةُ وسيلتَنا المُثلى لتَصَوُّر الأمور “قبل أن تكون”، ثم لاستيعابها في بنياتها الأساسية وفي صيرورتِها وعلاقاتِها “وهي كائنة”، ثم الانتقال من ذلك إلى تَوَقُّع حالاتها وأشكالها التي “ستكون عليها لاحقاً”، واستباق أنماط التعامل معها في آفاق القادم والآتي!!

أليس هذا مُعَقّداً بالفعل؟ وصعباً بالفعل؟ وبسبب ماذا؟ بسبب التيليسكوب دجيمس ويب، الذي ابتعد عنا بملايين الكيلومترات، ليُشاهد نيابةً عنّا بعينه الشاسعة وشبكيته الاصطناعية العملاقة مُكوّناتٍ وتفاصيلَ فضائيةً تبعد عنا بملايير الكيلومترات، ثم ليقول لنا، في خضم هذا الإبهار والإعجاز العلميَيْن، أن علينا أن نتعلم فنّ إعادة النظر في قناعاتنا السابقة، كل قناعاتنا السابقة، لأن ذلك وحده الكفيل بإبقائنا على اتصال معرفي متطوّر بالكون من حولنا، وفي تَواصل مستمر ومثمر مع مكوناته الأشد بُعداً إلى درجة الاضمحلال والتعذّر على الرؤية بكل وسائلها وأشكالها!!

السؤال المطروح، الآن، بناء على ما فعله في قناعاتنا التي كانت راسخةً، التيليسكوب دجيمس ويب، فحوّلها بذلك إلى قناعات فائتة وبائدة، هو:

كيف ينبغي علينا أن نتمثّل الآن وُجودَنا العابر، بالشكل الذي يجعله تمثُّلاً إيجابياً وبنّاءً، ليس على مستوى النجوم والكواكب والأقمار، أو على صعيد المجرات والثقوب السوداء ومقابر الأشلاء والشظايا الفضائية، فقط لا غير، بل أيضا وبصورة أكثر إلحاحاً ودقةً، على مستوى إيماننا أو عدمه بوجود خالق واحد أوحد، جبار ذي الطول، كائن قبل كل ضروب الكينونة، وباق بعد كل أشكال البقاء… وكل ذلك، بتناغم مع التنزيل الحكيم، في حمولته الكونية والعالمية؟!

بتعبير أوضح، كيف يتسنى لنا أن نجعل هذا الانقلاب الجذري الذي أحدثه فينا المسبار الفضائي دجيمس ويب خادماً للرسالة الملقاة على عاتقنا، إن كنا أساساً لا نزال نذكر أننا أصحاب رسالة، وأصحاب دعوة، وأننا “كنا خير أمة أخرجت للناس”، قبل أن تقع فؤوس التشيّع والتفرقة في رؤوسنا ونصير قاب قوسين أو أدنى من التحوّل إلى “أسوأ أمّة”؟!

يا له من سؤال تَشيب لِمجرد التفكر فيه الوِلْدانُ!!!

بقلم الأستاذ عبد الحميد اليوسفي