أحكامنا المشخصنة في حق الآخرين.. والمنطق المغلوط!!

بداية سأطرح سؤالا مبدئياً أتمنى أن يجيب كل منا عليه بكل صدق، وبكل تجرد، ولو بينه وبين نفسه:
“هل يحق لنا أساساً أن نُصدر أحكاماً مهما كان شأنُها على الآخرين، سواء جمعتنا معهم قواسمُ مشتركةٌ في الفهم والتمثّل، أو لم تجمعنا بهم سوى خنادقَ متقابلةٍ ومواقفَ يوازي بعضُها بعضاً، بمعنى أنها لن تلتقي مهما طال الأمد”؟!
لا أعتقد ان أحدنا سيرد بالإيجاب على هذا السؤال، لأننا، بكل تأكيد، مدرِكون أن منطلقاتنا تتعدد وتختلف ولا يوجد بينها ما يكتسي صفة “الحقيقة” و”الثبات”، وبالتالي فمُناظراتُنا مهما احتدت واستعر أوارها ينبغي، من حيث المبدأ الأساس، أن تقف عند أعتاب الأشخاص، فلا تدخل إلى عرائنهم، ولا تخوض إلاّ في أفكارهم وطروحاتهم ومقولاتهم… ولكننا لشديد الأسف لا نحترم هذه القاعدة وهذا المبدأ إلا في القليل النادر من المواقف!!
دافِعي إلى هذا القول، أنّ أكثر المُحاورين، الكُثْر، الذين ناقشتُ معهم أفكار ومقولات المرحوم محمد شحرور، فاجأوني بحكم قَيْميّ أصدروه في حق هذا المفكر، المتمرد قَيْدَ حياته على القوالب المفاهيمية الجاهزة والتي ظلت تدفعنا إلى “قعر الصندوق” طوال قرون من الزمن، واصفين إياه بالعلماني، لا لشيء سوى لأن له مواقِفَ يشبه بعضُها مواقفَ بعضٍ مِمََن تواضعنا على تسميتهم ب”العلمانيين”، وهذه بدورها تسمية متعسفة، لأنها تحاول أن تُلصق توصيفاً ثابتاً بمفكرين يميلون إلى استعمال أكبر وأوسع “للعقل والعلم والمنطق”، في مقابلة “النقل والتمذهُب والتحزّب”… و”إنْ هي إلا أسماء سمَّيْناها نحن وآباؤنا ما أنزل الله بها من سلطان”!!
حَسَناً… هل يكفي لكي أكون أنا أو غيري “علمانياً” أن أجتمع مع العلمانيين في بضع مقولات، أو بضعة مواقف، مهما كان اختلافي معهم أوسع وأشد في باقي المواقف والمقولات؟!
أليس الفكر إنسانياً وكونياً في أساسه الأول؟ فلماذا نُصِرُّ على تصنيف أصحابه، الأشخاص، في خانات وضعناها نحن، وصنعناها نحن، دون أدنى تفكير أو إلتفات إلى رأي الآخرين، الخارجين عن هذه “النّحن”؟!
ألسنا هنا نأخذ بالمنطق “المغلوط” الذي تعلّمناه وتعرّفنا على مقدّماته ونتائجه منذ أوّل دروس الفلسفة والمنطق، والذي جاء فيه بالحرف: “سقراط مات.. الكلب مات.. إذن سقراط كلب” (!!!)؟!
أليس هذا بالذات هو ما اعتمده المُحاوِرون المذكورون في حكمهم على المرحوم شحرور: “العلمانيون يقولون بسَبْقِ العقل على النقل.. شحرور يقول بسبق العقل على النقل.. إذَنْ شحرور علماني”… ألا يستحق هذا المنطق كل أشكال الرثاء؟!
حتى لا نتوه بعيداً، فالمرحوم شحرور لم يكن سوى نموذج اتَّخَذْتُه هاهُنا لوضع الأصبع على ذلك الجرح الغائر والمتعفن الذي أصاب مناظراتِنا وحواراتِنا فأصاب بذلك فكرَنا، وبتحصيل الحاصل سلوكَنا تجاه بعضنا البعض، حتى صرنا نتخندق عن قصد أو عن غير قصد في حُفَر شَقّها مِن قَبْلِنا سَلَفٌ هان نصيبُه من العلم والعقل والمنطق، ترك لنا لشديد الأسف تراثاً مبنياً في 99,99% منه على الحفظ عن ظهر قلب، وعلى النقل حرفياً بلا عقل، ولذلك أدمَنَ معظمُنا نسيئةَ إصدار الأحكام في حق الأشخاص بمجرد النظر في أفكارهم ومواقفهم، بلا تَجَرُّدٍ يجعل أحكامَنا منفصلةً عن ذواتهم، وبذلك أصبحنا مُغتابين “مشّائين بنميم”، بالتعبير القرآني البليغ والدقيق، وصارت مناظراتُنا تنكبّ على مَن يكون مناظِرونا لا على ما هي عليه أفكارُهم ومقولاتُهم، فأفلحنا فقط في شخصنة كل مجال نخوض فيه بلا استثناء، حتى أصبح أكثرُنا منشغلاً بالذود عن نفسه وشخصه بعيداً كل البُعد عن أفكاره وآرائه… ومَن يرى لنا حالاً على غير هذا المنوال فليُناظِرني!!!
دعوني، لكي تتضح الفكرة أكثر، أعود إلى نموذج المرحوم شحرور، لا لأدافعَ هنا عنه، لأنه في غيرما حاجة إلى شخصي المتواضع، وإنما لألفت النظر إلى أنه عندما رأى مثلاً عينَ ما رآه العلمانيون بخصوص واجب احترام “الحرية الفردية” في كل تجلياتها وحركاتها وسكناتها، ولذلك، وعلى سبيل المثال دائماً، اعتَبَر ذلك المفكرُ المؤاخذةَ على الزنا مشروطاً بوقوعها أمام الملأ، وليس داخل مخابئ لا يعلم أسرارها وخباياها إلا علاّم الغيوب، فوافق بذلك مقولات العلمانيين في هذا الباب، فإن ذلك لا يمكن أن يجعل منه علمانياً بالضرورة، أخذاً بالمنطق المغلوط سالف الذكر (سقراط مات.. الكلب مات.. إذَنْ سقراط كلب)، خاصةً وأن الرجل كان من أكبر الدعاة إلى الرجوع للقرآن كمصدر منفرد للتشريع الديني، وهذه وحدها دعوة لا يقدر على حمل عِبئها العلمانيون تحديداً!!
غير أنّ أغرب ما أنتجه عقلنا المريض، أن السلفيين، وأمثالهم من عُبّاد التراث، اتهموه بالإلحاد وبكونه شيوعياً، ووسموه في الوقت ذاته بكونه “قرآنياً” وَصْفَ قدحٍ وتقبيحٍ وتبخيس، حتى وهم يعلمون يقيناً بأن الرسول وآل بيته وصحابته وخلفائه الراشدين كانوا جميعهم “قرآنيين” بأقصى دلالات الكلمة!!
بربّكم… هل سمع أحدكم عن مفكر “شيوعي” و”ملحد” و”قرآني” في الآن ذاته؟!!
هذا إذَنْ هو بيتُ قصيدِ هذا المقال المتواضع:
دع عنك شخصي، وناقش فقط أفكاري وطروحاتي ومقولاتي، وستجد فيها ولاشك ما يستحق أن يُؤخَذَ به وما يَجدُر أن يُضرَبَ بعرض الحائط أو يلقى في أتون المزابل، وفي الحالتين معاً دع شخصي بعيدا عن تصانيفك التعسفية، وعن آبائيتك التي تمنحك الحق في مؤاخذتي شخصياً على أمور تعلم أنت ذاتُك أنني سأُسأَلْ عنها غداُ بين يدي رب العزة، فلا تجعل نفسك شريكاً لرب العزة في هذه المهمة الربانية… هذا كل ما في الأمر!!!
بقلم الأستاذ عبد الحميد اليوسفي
تعليقات 0