إمامة الأطفال للصلاة..موضة أو سِيبَة غير مسبوقة؟!

“ما شاء الله”.. “ما شاء الله:…
مئات التعاليق على هذا النحو، تكتنز بها شاشاتُ العرض بالحواسيب، والهواتف الذكية، كلما ضمّ المشهد طفلاً صغيراً في عمر العصافير يَؤُمُّ جماعةً من المُصلّين الرّاشدين.. شيوخاً وشباباً.. ذكوراً وإناثاً.. بلا ادنى إدراكٍ لحقيقة المشهد وإيحاءاته!!
بعض التعاليق يُبدي اندهاشَ المُعلّقين من جمال صوت الإمام الصغير، وبعضهم الآخر يبدو مأخوذاً بحِفظ الطفل لآيات الذكر الحكيم، وإلقائِه لها بعربية سليمة تبزّ إلْقاءَ بعضِ الأئمة الأكابر… وقس على ذلك من الارتسامات المبنية بِرُمّتها على العاطفة لا على العقل، والعقل منها براء، ولا أحد، أقول هذا وأؤكده، “لا أحد” يبدي أي التفاتٍ إلى أمرين اثنين في غاية الخطورة يتعلقان على التوالي بطرفَيْ هذه المفارقة الغريبة، وهما “الطفل” و”الإمامة”… فكيف ذلك؟!
تعالوا نبدأ بمناقشة هذين العنصرين، غير المتكافئين، ولْنبدأْ بثانيهما لأنه الأهم والأكثر خطورة من الأول، ما دام ذا علاقةٍ وطيدةٍ بالعقيدة، وبتديُّنِنا، الذي يُفترَض أن يمتح من الدين، وليس من ثقافة المتديِّنين البسطاء الخاضعين لمشاعرهم لا لعقولهم… فهل يَعرِف هؤلاء المُصَلّون، وكذلك المعلّقون والمعقّبون، ماذا يعني الطرفان معاً: “الإمامة” و”الطفولة”؟!!
أولاً- الإمامة:
حسب علمي اليسير والمتواضع، فإن للإمامة شروطاً من أهمها وأبرزها بعد البلوغ والقدرة ما يلي:
1- “سعة العلم”، أو على الأقل، العلم بضوابط العقيدة والدين بما فيه الكفاية للإجابة على أسئلة العامة من المصلين ذات الصلة بحياتهم اليومية، داخل الأسرة، وفي العمل، وفي الأسواق وعلاقات البيع والشراء… مع القدرة على إرشادهم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم…
فهل يتحقق هذا الشرط في طفل مازال في بداية مشواره الأرضي، وما زالت حاجته ماسةً إلى مَن يسهر على تربيته وتَنشئته التنشئة الاجتماعية والدينية اللائقة حتى يكون قادرا على مواجهة تحديات الحياة، وتَحَمُّلِ “ابتلاءاتِها ربّانيةِ المَنشأ” (“ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً” – الملك – 2)؟.. بالطبع لا!!
2- “السمعة الطيبة” و”الذكر الحسن” بين الناس، وطنيا إذا أمكن، أو محليا على الأقل، وهذا الشرط يمنح للإمام هامشاً واسعاُ من الثقة يضعها في شخصه عن طِيبِ خاطِرٍ أهلُ منطقته، والمترددون على الصلوات التي يؤمها، بحيث يرى فيه مَن يُصَلّون وراءَهُ قدوةً جديرةً بالاقتداء، وأُسْوَةً حسنةً قمينةً بالتّأَسِّي…
فهل لدى الطفل الصغير تفاعلٌ اجتماعيٌّ وثقافيٌّ يؤهله لاكتساب ذلك الصّيت وتلك السمعة، وتجعله بالتالي قميناً بأن يُقتدَى به، وجديراً بتلك الثقة؟.. أكيد لا!!
3- التعقّل، بالمعنى الذي يُفيد القدرة على “استعمال العقل” فيما يَرِدُ عليه من المسائل الدينية والدنيوية، ومِن بينها ما يَعتَوِرُ حياةَ الناس والأسر من المشاكل والمصاعب والأسئلة الشائكِ بعضُها، والحارقِ بعضُها الآخر، لأن الإمام ليس قائدا لسفينة الصلاة فحسب، بل هو أيضاً أهل للبت في مسائل غير قليلة تجعل اللاجئين إلى تقديره وحكمته يستغنون عن الذهاب إلى المحاكم عند التنازع، أو إلى أطباء العلاج النفسي عند الارتباك الوجداني، وحين اهتزاز الثقة بالذات… وما أكثر ما يُعرَض على الأئمة من هذا الضرب من الأمور الشخصية والمجتمعية، والتي ينبغي ان يكون الإمام فيها رُبّاناً حاذقاً وقادراً على البحث لسفينته وركابها عن مرافئ آمنة… فهل للطفل الإمام مجرد فكرة عن هذه الشؤون وأسئلتها الملتبسة أحياناً، والمتداخلة في أحايين كثيرة؟.. لا بكل تأكيد!!
4- أن يكون مكلَّفاً، وهذا من شروط المالكية، ودليل القدرة على حمل أمانة التكليف كل ما سبق ذكره في الشروط الثلاثة أعلاه… وهذا الشرط أيضا لا يتحقق في القاصر عامةً، والطفل الصغير خاصةً، وبالتالي لا يحتاج منا هذا الشرط إلى إطناب!!
ثانياً- الطفل:
يغلب الظن عندي بكل تواضع، أن الطفل، المُنصََّب “رغماً عنه” إماماً للمصلين الراشدين، لا يستطيع أحد من العالمين أن ينفي بأي شكل من الأشكال أن تُراوِدَ عقلَه الغَضَّ أثناء إمامته للصلاة أفكارٌ وصُوَرٌ من الطبيعي أن تنتاب كل أطفال العالم، بلا أدنى استثناء، منها مثلاً أن يرنو إلى الخروج من المحراب للعب مع أقرانه، واللهو بمعيتهم بكل البراءة المُتّصِفِ بها هو وأقرانُه بالبداهة، وهذا معناه أننا حين نجر الطفل جرّاً مُبْرِحاً إلى إمامة المصلين نكون، أردنا ذلك أم أبيناه، مُبعِدين إياه عن طفولته، وبعبارة أوضح ولكنها أكثر خشونة، نكون قد اغتصبنا طفولته بتحويلنا إياه إلى دور جسيم لا يقدر على حمل مسؤولياته وتبعاته إلاّ صناديد الرجال وأقوياؤهم عقلاً وإرادةً وكِفاية!!
إنّ هذا من شأنه، بعد زوال متعة اللحظات الأولى، أن ينعكس سلباً على نفسية طفل يرنو، كما العصافير، إلى التحليق بعيداً باتجاه فضاءاتٍ من المتعة الحسية البريئة لا يَعقِلُها ولا يَنفعِلُ لها إلى الصغار!!
ومن الأكيد أن الطفل، المجرور جرّاً والمحشور حشراً في مسرحية الإمامة المُصطنَعة، لن يختلف عن أقرانه المنغمسين في الأشياء الطفولية الصغيرة والبريئة مهما كان بادياً عليه في الظاهر من علامات الهدوء والجدية والرزانة، إذ أنه يعيش حالة “نفسعقلية” خطيرة هي أقرب إلى ازدواج الشخصية أو “السكيزوفرينيا”، وعلةُ خُطورتِها أنه محروم من الاختيار، وعلى الخصوص، من القدرة على التعبير عن مكنوناته، واضطراره إلى تقمّص دور الإمام، وهو الدور الذي لا يفرح به ولا يستمرئه والحالةُ هذه سوى والد الطفل، إن كان له والد، أو ولي أمره، الذي لا تدور بذهنه هذه المفارقات، ولا يرى منها سوى أنّ ابنه قد صار “إماماً” يُحسَبُ له حسابُه وهو بعد في سن الزهور، وأنه سيكون له شأن وأيّ شأن في قادم الأيام والأعوام!!
يا حضرات… إننا بصمتنا، الذي أصفه بالمَرَضيّ، عن هذه المهزلة نكون متواطئين على وَأْدِ طفولةٍ بريئةٍ لا ذنب لها سوى أنها أوقعها الكبار في المكان غير المناسب، في الزمن غير المناسب، فحملوا وزر فعلهم ذاك أمام مالك الملك جل وعلا، الذي هو مَن وضع في قلب الطفل كل ما يعشقه الأطفال في كل بلاد الدنيا، وفي كل الأزمنة والعصور، مما يغفل عنه الكبار أو يتغافلون عنه عن قصد… وإنها في نهاية المطاف لمهزلة ينبغي أن نقطع معها إن كنا فاعلين!!
ثم إن صلاة المُصلّين وراء إمام من ذلك الصّنف عليهم أن يُقضوا صلاتهم تلك لأنها بدون أدنى جدوى، بل هي صلاة باطلة، وجائرة، لكونها تصيب في مقتل، في آن واحد، براءةَ الطفل/الإمام، وعبادةُ من العبادات ما كان ينبغي الاستهزاء بها واستصغارها إلى تلك الدرجة من الهُزال والمُيوعة… وإنها فعلاً لَقِمّةٌ في المُيوعة والهُزال… إنها، بعبارة أخرى، نوع من التسيّب في شأن لا يقبل هذا الضرب من الاستصغار واللامسؤولية!!!
بقلم الأستاذ عبد الحميد اليوسفي
تعليقات 0