فقهاء الجهالة..وآفة تنفير البسطاء من الربّ العَفُوِّ الرحيم!! 

مصيبتُنا في ديننا أننا تربّينا منذ نعومة الأظافر على أن نذكر الله بمنتهى الخوف والقلق والرهبة.. لأنّ آباءنا البسطاء.. الذين أفنوا أعمارهم لكي يُرَبُّونا أحسن تربية.. نهلوا هذه المعرفة غير الصائبة وغير السليمة من أئمّة مساجدهم.. ومن معلّمينا في الكتاتيب القرآنية.. فتشبّعوا بها وغرِقوا في بحبوحتها حتى النخاع!!

مصيبتُنا في ديننا.. أن هذا الوباء الفكري والعَقِيدي ترسّخت جذورُهُ في أذهان السواد الأعظم ممّن يَعتبِرون أنفسهم “مسلمين دون غيرهم” من ساكنة هذا الكوكب.. ولذلك نراهم مندهشين وغير فاهمين ولا متفهّمين للفوارق الشاسعة بين أحوالنا الجديرة بالرثاء.. وأحوال من نَصِفُهم بغير المسلمين ونسِمُهُم بالكُفر والشِّرك والإلحاد.. الجديرة بالزهو والفخر والاعتزاز.. ولِسان حال بُسطائنا يقول: “كيف يُغدِق الله على هؤلاء الخيراتِ وأسبابَ الرّقيّ والسَّبْق والغَلَبَة.. ثم يتركنا نحن المسلمين المؤمنين صَرعَى أحوال يُرثى لها.. من الضعف والهوان والانهزامية”؟!!

 والحال أن فقهاء الجهالة، وأخص السلفيين منهم.. يُبادرون بهمّة عالية للرد على هذا السؤال البسيط قائلين.. بكل عَمَى كعادتهم.. “إن الله يمدّ للكفار والمشركين في ثَرائهم وقُوّتِهم مَدّا.. ويُمهلهم إلى يوم الدين.. لأنّ الله أراد لأولئك الكفرةِ الفَجَرَةِ الدنيا.. وأراد لنا نحن المسلمين المؤمنين الآخرة”… فيا له من غباء مُرَكّب أوقع بسطاءَ هذه الأمة في حُفَرِ من الجهالة والضلالة ليس لها قرار!!

ما الذي دفعني في أول هذا الشهر الفضيل إلى هذه الوقفة المُزعِجة عند هذه الظاهرة.. المَرَضية بكل المعايير؟!

 لقد طلع عليّ في هذا الصباح الباكر.. من هاتفي المحمول.. كما يطلع الجني من المصباح العتيق في حكاية علاء الدين الشهيرة.. شيخٌ في مقتبل العمر يتحدث من فوق منبر مسجد من المساجد.. ويقول بصوت متهدّج من فرط رُعبِهِ وَوَجَلِه.. أو هكذا أراد أن يوحِيَ لمُستمعيه من بسطاء المؤمنين.. بما مفاده أن: “هذا الحديث الخطير والمرعب.. ينبغي أن يَطرد النوم من أعيننا ويجعلنا نحتاط حتى لا نقع في القارعة…” ثم لمّا آنس من مستمعيه البسطاء ما يكفي من الخوف والهلع لطرد النوم فعلا من أعينهم.. ذكر لهم حديث ذلك “العبد الذي يأتي طوال عمره أعمال أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع.. فيأتي عملا واحدا من أعمال أهل النار فيحق عليه القول فيُلقَى في النار.. وذاك الآخر.. الذي يأتي طيلة حياته أعمال أهل النار حتى لا يفصله عنها إلا ذراع فيأتي عملا واحدا من أعمال أهل الجنة فيحق عليه القول فيدخل الجنة”.. والمستمعون الملتفّون من حوله يتمايلون مع خبطاته بين باكٍ ومُستغفِرٍ ومُتَنَهِّد.. وكلٌّ منهم قد تغير لونُه وتسارعت أنفاسُه ونبضاته من جرّاء حسابات جوّانية لا يعلمها إلا هو نفسُه وعلاّمُ الغيوب!!

“تربيةٌ إسلاميةٌ” في غاية السوء.. وغاية التخلف.. أليس كذلك؟! تربيةٌتُشبه إلى حد التطابق أحوالَنا المتردّية بفضل هذا النوع الجاهل بربّه ومولاه من “الأئمة” و”الفقاء”.. الذين كل ما لديهم من الأرصدة العلمية والمعرفية بخصوص ربهم.. لا يختلف في حجمه وقيمته عمّا لدى بقّال حيٍّ شعبيٍّ مِن العلم بمجالاتٍ كالطب والهندسة والفيزياء وعلوم الفضاء… وقِس على ذلك بلا هوادة.. مع الاحترام الواجب لكل البقّالين في أحيائنا الشعبية.. والذين هم منا بمثابة الأهل والأحباب!!

الناس في بلاد “الكفار” يتغنّون بأن “الله محبّة”.. وأن “الله عدل وعفو ورحمة”… وكذلك عَرَّفَنا الله على ذاته وصفاته في كتابه الحكيم.. وفي كل رسالاته المنزّلة على أنبيائه ورسله.. لولا أن هؤلاء “العلماء ورثة الأنبياء” أرادوه ربّاً قاسياً باغياً.. سادياً مُتَجَبِّراً.. لا تعرف الرحمة طريقها إلى ذاته العليّة (حاشاه وسبحانه وتعالى عن ذلك مطلق العلو) حتى وهو يأمرنا في ذكره الحكيم بأن لا نقنط من رحمته.. وبأن نجعل الأمل في عفوه أكملَ وأعظمَ من خَشيتِنا من غضبه وبأسه… ولو أجرينا مقارنة في غاية البساطة بين آيات الرحمة وآيات الوعيد في رسالته المعروضة علينا.. وفي كافة رسالاته.. لوجدنا الفارق مُهْوِلاً بين الإثنين.. أقصد: لفائدة الرحمة لا الوعيد.. ولكنّ فقهاءَ آبائِنا وفقهاءَنا.. إلى غاية أيام الله هذه.. لم يقرأوا القرآن ولا يقرأونه إلاّ بالألسنة والأعين.. ولذلك لامسوا آياته بالنظر دون البصر.. وشتان ما بين الرؤية بعينَيْ الرأس والمشاهدة بعين البصيرة لو كان هؤلاء الفقهاء يَعقِلون.. وأنا لا أعمم هنا ولا يحق لي التعميم إطلاقاً!!

 ويأتي السؤال في نهاية هذا المطاف مشروعاً وحارقاً: 

“كيف ألقى القدر الساخر بهؤلاء فوق منابر الخطابة.. ليُوسِعوا في الناس ضرباً وركلاً ولطماً.. بما يَبثونه من التفاهات ليس بخصوص مشاغل الدنيا الفانية.. بل بخصوص ربّ عفوّ غفور رحيم لا يرى فيه هؤلاء الفقهاء الضِّعاف المساكين إلا ما تعلّموه من سلف لا يَقِلّون عنهم هَواناً ومَسْكَنة”!!

ونعود إلى ذلك “الحديث المرعب” بتعبير الفقيه الشاب.. والمنسوب ظلما وعدوانا للصادق الأمين.. لنجده يقدّم للمتلقّين ربّاً سادياً يتصيّد أخطاء عباده وهفواتهم ليوقعهم في الهاوية من جرّاء عمل سيّئٍ فريدٍ أتَوْه بعد عمر طويل من الاستقامة والتقوى.. كما لو كان ذلك يُفْرِحُه ويُغْبِطُه.. ثم يُدخِل بموازاةِ ذلك إلى جِنان الخُلْد أشراراً مَرَدوا طوال حياتهم على النفاق والظلم والبغي.. وعلى الجريمة بمختلف أشكالها.. لمجرد إتيانهم عملاً حسناً لا ثانِيَ له في نهاية مشوارهم الأرضي.. مُتغاضياً بذلك عن كل ما أنتجوه في محيطهم ومِن حولهم من المآسي والمظالم والمَفاسِد!!

أيُّ ربٍّ هذا الذي جاء به الرواة الملعونون فجعلوه موضوعَ حديثٍ مكذوبٍ نسبوه إلى النبي الصادق الأمين.. قبل أن يُمَرَّروه من تحت أنوف

 مئات الآلاف من أجيالِ فقهاءِ الخمسةَ عشر قرناً الماضية؟!! يالها من مصيبة!!!

لست هنا بصدد إلقاء كلمةِ وَعْظٍ رمضانيٍّ كما قد يبدو لأول وهلة.. لِعلمي الأكيد بأنني أخاطب أُناساً يفوقونني تعلُّماً وتَبَصُّراً.. ولكن السؤال المطروح هنا من تلقاء ذاته وبكل إلحاح.. من شأنه أن يُؤْرِقَنا ويَقُضَّ مضاجِعَنا بالجملة:

((ما السبيل إلى الحيلولة.. الآن وليس غداً.. وبعد أن وقعت الفأس في الرأس.. دون استمرار أمثال هذا الخطيب الجاهل برحمة ربه وعفوه.. في مَطرقة رؤوس بسطاء المؤمنين.. من أجل تنفيرهم من الرحيم مطلق الرحمة.. العفوِّ الكريم مطلق العفو والكرم.. الذي وصف لنا حُنُوَّه ورحمته بما يُضاعِفُ أضعافاً مُضاعَفةً رحمةَ وحنانَ أمهاتنا.. اللواتي لن تجد الواحدةُ منهن غضاضةً في تقديم نفسها فداءَ شعرةٍٍ واحدةٍ ليس إلاّ.. من شعر رأس أحد أو إحدى فلذات كبدها مهما كان الظرف والسبب والعلة))؟! 

 من يجيب على هذا السؤال الشائك طلَباً للأجر والثواب؟!!

      بقلم الأستاذ عبد الحميد اليوسفي