تناقضات المشاهد والمواقف في أمّة البؤس!!

المشهد الجميل والرائع، والمحزن والمبكي في آن واحد، والذي حرك الرغبة في “ارتكاب” هذا المقال، ليس من بنات أفكاري، التي أشهد بأن العُقر والعُقم عن الكتابة الأدبية والشعرية قد أصاباها منذ أكثر من ثلاث عشريات على الأقل، وإنما هو من إبداع الشاعر الرائع، المرحوم نزار قباني، الذي قال ذات فَلْتَةِ من فَلتاته الكثيرة، والمشهودة:
“نحن الأمة المثقفة، التي تمسح الزجاج بالجريدة، وتقرأ في الفنجان”…
مشهد سريالي بكل المعايير … أليس كذلك؟!
سوف لن أتّخذ هذا المشهد “القبّاني” موضوعا لنص إنشائيّ، أحلل فيه المقولة لأبيّن أوجُهَ بلاغتِها الأدبية، ودقةَ تصويرِها لواقع عربي لا مجال لنكرانه، وربما لن يتغيّر إلى أجل قد لا يَجيء أوانُه أبداً، لأن الحال يُغني عن المقال… بل سأنتقل رأسا إلى تقديم مشاهد استدلالية مُدرَكة بكل الحواس، على أننا فعلا أمّةٌ “لا تعرف العلم وإنما تعرف الزيادة فيه”، كما يقول ذلك المثلُ الساخر!!
*نحن الأمة التي يؤمن أكثر أبنائها بالله، وباليوم الآخر، ولكن أكثر أبنائها، أيضاً، يَكذب، ويَسرِق، ويَظلِم نفسَه وغيرَه، ويأكل أموال اليتامى، ويَلمِز نفسَه وأخاه ويتنابز معه بالألقاب، ويَصُد عن سبيل الله، وعن الصدقات والمَكارم!!
نحن الأمة التي تفترق في تَدَيُّنها، فتتفرّق بذلك في دِينها، وتتشيّع وتتمَذْهَب، ثم تَقتَتِل فِرَقُها وشِيَعُها فيما بينها، في سبيل الله (!!!)، ولذلك فكلُّ فَصِيلٍ من فصائلها يُكَبِّر ويُهَلِّل، ويُبَسْمِلُ ويُحَوْقِل… ثم يرفع أصابعه بشارات النصر والشهادة، حتى وهو مُدرِكٌ أنه يقاتل أخاه… ومَن لم يفعلْ ذلك من أبنائها يَقِفْ وقفةَ المتفرج المتمتع بفُرجَتِه وشَماتَتِه!!
*نحن الأمة التي تستعدي غيرَ العرب وغيرَ المسلمين على إخوانها العربِ المسلمين، وتتآمر ضد إخوانها وجيرانها مع ألذ أعداء العروبة والإسلام، ثم تَشرَع بعد ذلك، وبعد أن تقع فأس الفُرقة في الرأس، في البحث عن مبررات عدائها وعدوانيتها رغم إدراكها أنها بذلك لا تُقنِع حتى ذاتَها… لأن العبرة لديها بالمحاولة لا بالهدف، ولا بالنتائج والغايات!!
*نحن الأمة التي قبلت أن يتساوَى لديها في الوزن والقيمة كلامُ الله وكلامُ البشر، فلمّا يَئِس فقهاؤها من إيجاد أيِّ استدلال على جواز ذلك ومشروعيته صنعوا ما سمَّوْه “وحياً ثانياً”، فأسّسوا بذلك “لِعُذرِ أكبرَ من الزّلّة”، ولمّا لم يكْفِهِم ذلك، صَبّوا زيتَ غبائهم على نار جَهْلِهم، فقالوا بالناسخ والمنسوخ، فأسبغوا بذلك على الله نقائص لا تليق إلاّ بالبشر، وبذواتهم هم أنفسهم على الخصوص، وجعلوه يقول الكلام ثم يَعدِل عنه، ويُصدر أحكاماً ثم يتراجع عنها… سبحانه وتعالى عن ذلك علوا مطلقاً، وبئس ما فعلوا وما زالوا يفعلون!!
*نحن الأمة، الوحيدة، التي كلما دخل عليها أيُّ اكتشاف علمي جديد، أو أيُّ آلية حداثيةٍ من شأنها أن تُحسّنَ ظروف العيش، أو تُقرّبَ الشُّقّةَ بين الناس، إذا بها تُسائل فقهاءَها الماضويين البدائيين هل هذا الوافد الجديد حلال أم حرام، بدلا من السؤال عن المقدمات العلمية لذلك الاكتشاف، أو الاختراع، من أجل الولوج إلى أسراره وتحقيق أفضل المنافع من استعمالاته، أو بالأحرى، من أجل اكتساب القدرة على مُحاكاته والاجتهاد بالتالي في تطويره وتطويعه ليخدم مصالحها المتميزة والمختلفة بالضرورة عن مصالح غيرها من الأمم!!
*نحن الأمة التي تتشدّق ليس بإنتاج المعرفة، بل باستهلاكها لمعارف الآخرين، الذين تَسِمُهم بالشرك والكفر والإلحاد، فترتدي آخر تقليعاتهم في اللباس، وتقتني سياراتهم، وتضع في معاصم أيدي رجالها ونسائها ساعاتهم، وتتواصل بهواتفهم وحواسيبهم، وتُعالج أسرارَها وأشياءَها الخاصة والأكثرَ خصوصيةً وحميميةً باستخدام برمجِياتِهم وأنظمتِهم في الاتصال والإعلام والمعلوميات، حتى صارت بذلك أمةً عاريةْ لا أسرارَ لها، ولا خبايا، ولا خُصوصيات، وبالتالي أمةً مُبتذَلَةً، تَنشر غسيلها بمختلف أشكاله على مشاجب الغير، فيرى الغير نقائصها وسَوْءاتِها بلا أدنى حواجز أو أغطية إلا بقدر ما يستر الغربال أشعة الشمس، أو بقدر ما تُخفي الشجرة أدغال الغاب!!
*نحن الأمة التي ادّعت الأخذ بمبادئ الديمقراطيا، والعدل، وحقوق الإنسان، فصنَّعت وفبركت أحزاباً على ذات المقاس، تصفّق لكل شيء، وللاّشيء، واجتهدت في لَيِّ أذرع القوانين فشَرْعَنَتْ نهب أموالها العمومية، ومُقدًَرات شعوبها، تحت أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وقنّنت هتك الحق، وهدر الكرامة، بواسطة تشريعات تحارب الإرهاب والجريمة المنظمة، ولكنها أساءت تعريف الجريمة المنظمة والإرهاب، وبذلك كثر فيها ترويج المخدرات، وتبييض الأموال، والاتجار في البشر!!
نحن الأمة… نحن الأمة… نحن الأمّة… رحم الله الشاعر نزار قباني، وأَجزَل له العطاء الأوفى، لأنه استثمر السواد الأوفر من عمره ليُرِيَ أمتَنا وجهَها في المرآة، وليُقنعَها، قبل رحيله، بأنها ليست “خيرَ أمّةٍ أُخرِجت للناس تأمر بالمعروف وتَنهى عن المنكر”، بل هي كما هي، بالقوة وبالفعل، أسوأ أمة ما دامت على ذي الحال… إلى أن يقضيَ الله أمراً كان مفعولاً في جيلٍ من أجيالها القادمة!!
بقلم الأستاذ عبد الحميد اليوسفي
تعليقات 0