الكهنوت لا يغضب منك إذا “كفرت”.. بل إذا “فكرت”!!

أعجبتني هذه العبارة لأحد المفكرين المتنورين، لأنها تلعب على نفس التوليفة الحرفية (ف. ك. ر.) لصياغة معنيين متعارضين، فأحببتُ أن أتخذها عنواناً وموضوعاً لهذه المقالة لأنها تُعرْي واقعاً ملتبِساً يعيشه من نصفهم اليوم ب”الكهنوت الديني”، من السلف والخلف، لا يُستثنَى من ذلك إلا من رحم ربٌّك. وقد تطرقت في مقالات سابقة لمحاولاتهم الفاشلة في ليّ أعناق المفاهيم، إن كانت للمفاهيم أعناق، وتحريف مقاصد الآيات إن كان لديهم أدنى فهم لمقاصدها ومراد الله فيها!..
بعضٌ آخرُ من المتنوّرين، يشير إلى الفكرة ذاتها بتعبير “الخروج من الصندوق”، لأن “رجال الدين” هم الصندوقُ عينُه. وبالمناسبة، فطبقة “رجال الدين” لا وجود لها في الإسلام إطلاقاً، سواء في عهد البعثة المحمدية أو عهود الخلافات الراشدة، لأنها لم يُكتَب لها أن تولد وتظهر إلا بعد مجيء بني أمية وبني العباس، الذين أسسوا للحاجة إلى تلك الفئة، التي وظّفوها وأغدقوا عليها لتُفبرِك لهم شجرات الأنساب على المقاس، ولتصنع لهم الفتاوي والروايات الحديثية والسنن والسِّيَر بحسب الطلب، لا بحسب ما قضى به مرادُ ربِّ العزةِ المُبَيَّنُ في تنزيله الحكيم !..
مُراد الله بالمناسبة لا مٌبيِّنَ له سواه، أو مَن كلًفهم سبحانه ببعض ذلك من الملإ الأعلى، وهما الحالتان اللتان يمكننا التمييز بينهما من خلال ضمائر المتكلم في آي الذكر الحكيم… فكيف ذلك؟
إن الله عز وجل يتكلم عن ذاته العليّة بضمير “مفرد المتكلم” فقط لا غير: “إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي” (طه-14)، ولا يستعمل جمع المتكلم لتعظيم ذاته كما ذهب إلى ذلك المفسرون بجهلهم، المُرَكَّب، لمقدار ذي الطَّوْل سبحانه، لأنه سبحانه له مطلق التعظيم في وحدانيته وأحاديته، دونما حاجة إلى ضمير جمع المتكلم، الذي نلجأ إليه نحن لتعظيم بعضنا البعض !..
أما الملأ الأعلى، المكلَّفون من لدنه عزّ وجلّ والمنفِّذون لأوامره، فالكلام يأتي بلسانهم بضمير ذلك الجمع: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر-9). فملائكة الملأ الأعلى هم المكلفون بتنزيل الذكر الحكيم في صيغته المدرَكة، ومَنطوقِه الذي تدركه الأفئدة، وهم الذين يَحفظونه بأمر ربهم على الدوام من التحريف والتلفيق ومن النقص والزيادة، بوسائلهم الخاصة، التي تجعل المتلقّي للتنزيل يفطن إلى ايّ تغييرٍ أو تحريفٍ وينأى عنه أو يستبعده بفضل إملاءات يتلقاها من الملائكة المكلفين أنفسهم خارج وعيه وإرادته.
ومنهم مَن كلفه رب العزة بأخذ الأنفس التي قضى عليها الموت، وإرسال التي لم تمت إلى أجل مسمى، ولذلك جاء ذكر هذه المهمة في آي الذكر الحكيم بصيغة الجمع (سورة الواقعة: فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حين تنظرون “ونحن” أقرب إليهم منكم ولكن لا تُبصرون)!!
ومنهم مَن ينفذ الأوامر الإلهية في ميادين العلوم والمعارف بتيسير ولوج العلماء إلى مدارج القوانين المحكِمة للأنساق الكونية… وفي عوالم أخرى متعددة ومختلفة كتكوين الأجنة والمواليد، وانفلاق البذور في الزراعة، وتكاثر الأحياء في البحار والمحيطات، وفي غياهبها الأشدّ عُمقاً، ومثل ذلك داخل الغلاف الجوي للأرض وخارجه !..
لقد صدق إلى حد بعيد من قال إن الملائكة، بشكلٍ من الأشكال، هم القوانين الكونية التي نخضع لها جميعاً ويخضع لها كلُّ المخلوقات والكائنات، وربما إلى هذا المعنى بالذات، تشير الآية: “وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ” (الحاقة-17)، بحيث يكون “حُكْمُ مَلِك يوم الدين”، سبحانه، قائما على ثمانية قوانين وجودية لا يعلم حقيقتها إلا الحكيم العليم، ما دام العرش رمزاً للحكم، كما أن الكرسي رمز للمُلْك، وكلاهما خارج وعينا وإدراكنا، وبالتالي خارج هرطقات المفسرين الذين جعلوا لله عرشاً يستوي عليه كعروشنا، وكرسياً ككراسينا، رغم قولهم إنهما عظيمان وكبيران إلى أقصى الحدود، ولِمَ لا، وقد جعلوا لله ساقاً سيكشف عنها يوم الدين ليتعرف عليه المؤمنون بواسطتها، وجعلوا له قدما سيضعها في جهنم لكي تمتلئ وتنجو من سعيرها أفواجٌ من المذنبين… وكل ذلك موثَّق ومُخَلَّد في صِحاحِهم… سبحان الله وتعالى مطلق العلو عن مثل هذه السفاسف والصبيانيات، التي للأسف الشديد، أنها صدرت وما زالت تصدر عن “مفسيرين” و”فقهاء” و”علماء” هم أنفسهم المُشَكِّلون لطبقة “الكهنوت الديني”، أو “رجال الدين”، أو “أهل الحل والعقد”، وبالتالي فهم صُنّاع “الصندوق”، الذي أرتكب الآن من خلال هذه المقالة “جريمة الخروج من قوقعته”!..
ونعود إلى المقولة الطريفة في العنوان أعلاه، لنجد أن طبقة أهل الحظوة من “رجال الدين” يصفون أنفسهم ب”أهل الذكر” عند تفسيرهم أو فهمهم بواسطة تفاسير أسلافهم للآية: “فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (النحل-43) فاصلين الآيةَ كعادتهم عن سياقها، ومُتغاضين عن بدايتها التي تقول: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ”، بما يعني أن “أهل الذكر” هم أهل الكتاب، من بني إسرائيل، ما دام الذكر قد نزل ضمن الرسالات الثلاث السابقة والمنزلة على أنبيائهم، أقصد الزبور والعهدين القديم والجديد (التوراة والإنجيل)، لقول الله تعالى: “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ( الأنبياء-105)”.
إذَنْ، فطبقة “أهل الذكر” عندنا، وهو وصف باطل “لأهل الحل والعقد”، أو “رجال الدين”، أو “علماء الدين”… كلها أسماء سميناها نحن وآباؤنا ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما استعملناها على سبيل الإشارة إلى من نسميهم في عصرنا الحديث “صندوقاً موصداً ومختوماً”، أو “كهنوتاً دينياً” من أبرز سمات أهله أنهم لا يغضبون إذا كفر أحد المؤمنين أو ارتد عن دينه أو ألْحَدَ، بقدر ما يستشيطون غضباً، وينفعلون إلى درجة التخوين والإفتاء بالقتل أو الإقصاء، عندما يناقشهم أحد المؤمنين المتفكّرين قناعاتهم، أو يدعو إلى إعادة النظر في أحكامهم المنقولة بلا عقل عن موتى “الشيوخ” و”الفقهاء” و”العلماء” و”أهل الذكر”، وكلها أوصاف في غير محلها بدليل ما تركه الرسول الكريم وصحابته وخلفاؤه الراشدون وراءَهم من الحِكَم والمعارف والمَدارك الخالية من كل هذه الزيادات والبدع!!
نهايته… وكما في كل مرة، سوف أنتظر شخصياً وبكل تواضع، إن وقعت هذه المقالة في يد أحدهم أو بعضهم، أن يترك الرد عليّ، أو مناقشتي أفكاري، وأن يذهب بدلا من ذلك، كالعادة، إلى تكليف مَن يقول لي كما في مرات سابقة: “إنه يتشوّق إلى ملاقاتي في الشارع العام ليشرب من دمي” (!!!) فيُدخِلُني بذلك، كما في مرات سابقة، في هستيريا من الضحك والقهقهة!!
رجاءً لا تُبالوا، فهذه طريقتهم الخاصة في الرد كلما أصابهم ذلك النوع من الغضب بسهامه ونِصالِه!!
نسأل الله جميعاً في أنفسنا وديننا السلامة والعافية!!!
بقلم ذ. عبد الحميد اليوسفي
تعليقات 0