عودة إلى “الشرك بالله: و”المشركين بالله”.. لكن بصراحة أشد!!

أقول دائما، وسأظل أقول، إن المفسرين شكّلوا بطريقة أو بأخرى مصيبةً من كُبريات مصائب هذه الأمة، وكلامي هذا موجه للباحثين والمتتبعين للشأن الديني ليس اتّباعا ونقلاً، بل تحليلاً وتفكيكاً ثم تدقيقا وتمحيصاً، لأننا هنا لسنا بصدد موضوع يحتمل المزاح أو العبث، بل لا يحتمل حتى ما يعتبر بالكاد تجاوزاً، لكونه موضوعاً حيوياً مصيرياً يترتب عنه تصوُّرُنا لمقاصد الإسلام من جهة، وللتنزيل الحكيم ومراد الله في آياته البيِّنات من جهة ثانية، ثم فهمُنا بالتالي لتلك المقاصد انطلاقاً من توجيه التنزيلِ الحكيمِ ذاتِه لأبصارِنا وبالتالي بصائرِنا تُجاهها، من خلال قول الله عز وجل: “الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ” (هود -1)، وقوله: “أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًاۚ” (الأنعام – 114)… وهل للفظ “التفصيل” معنى آخر غير البيان والتبيين المخاطِبَيْن لمَلَكات العقل، باستخدام آليتَيْ التفكّر والتدبّر، المأمور بهما قرآنياً؟!
إذَنْ، فالمراد بهاتين الإشارتين القرآنيتين هو التأكيد على أن تفسير آيات التنزيل الحكيم ينبغي أن ينطلق ليس من الآيات ذاتها، بل من التنزيل الحكيم ذاتِه، وهو المشار إليه قرآنيا بفعل الترتيل، الذي وصفه مفسرونا بكونه “تنغيم” القراءة صوتاً و”تجويدها” أداءً… فيا له من تفسير في غاية البطلان… إذْ حتى المعاجم التي وضعها الإنسان نجدها تقول إن ترتيل الشيء جعله أرتالاً أي أجزاءً ومجموعات متعددة، وكذلك نزل القرآن على الرسول وحياً، آيات متفرقات زمنياً، ومختلفات موضوعياً، وبالتالي فترتيله هو تفكيك آياته ثم إعادة تجميعها حول الموضوع الواحد، ليتيسّر النظر إليه وإبصاره بتحصيل الحاصل من مختلف جوانبه.
مثال في غاية البساطة على جدوى الترتيل:
يُفهم من الآية التي أُمِر فيها الملائكةُ بالسجود لآدم “فسجدوا إلا إبليس أبا” أن إبليس كان من الملائكة، لأن الاستثناء لم يشر إلى أي اختلاف في الخِلقة…
غير أن العودة بواسطة الترتيل إلى الآيات التي ذُكِر فيها إبليس تقودنا إلى سورة الكهف، التي جاء فيها قوله تعالى: “فسجدوا إلا أبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه”، وهنا يُفهم الفرق بين ملائكة “لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون”، وبين كائن من الجان مخلوق من نار السموم، ولذلك فالتمرد والعصيان متأصلان في خلقته… وبذلك يكتشف المتدبر المرتِّل أن إبلبس من خِلقة مختلفة ومخيَّرة من شِيَمها الطاعة والعصيان كما هي الخلقة الإنسانية!..
أردت بهذه المقدمة التأكيد فقط على أن تفسير التنزيل الحكيم إنما مصدره الصائب هو التنزيلُ ذاتُه… ومن هنا جاء هذا التحامل المبَرَّرُ على تفاسير الأوّلين!..
لنأتِ الآن إلى موضوعنا المنوَّه عنه في العنوان أعلاه: “الشرك بالله” و”المشركون به”.
إن علينا بدايةً أن نفرق بين “الشرك بالله”، و”الشرك مع الله”، ونميّز كيف أن الثاني ترك الله البابَ مُوارَباً حُيالَهُ لعل مرتكبَه يرجع عن غيّه ويعود تائباً إلى ربه، ولذلك لم يأمر رب العزة بمحاربته ولا بقتله أينما حل وارتحل وإنما ترك أمره إليه سبحانه، بخلاف الأول، وهو “الشرك بالله”، الذي أمر الله، فيما سماه المفسرون بآية السيف، بمقاتلته وقتله حيثما ثُقِف لأنه عدو الله بكل المعايير، وعدوٌّ عن علم، وبسبق الإصرار والترصّد… فكيف ذلك؟!
إن “المشرك مع الله” يعبد مع الله إلهاً آخر أو يتخذ إلهه هواه مع تصديقه بألوهية رب العالمين وإعلانه إخلاص العبادة له، ومن هنا يأتي الوصف القرآني “لأكثر الناس” بكونهم رغم إيمانهم مشركين (“وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون”)!!
يكفي كمثال على هذا التصور أن نتأمل في أحوال المسلمين منذ وفاة الصادق الأمين، إذ نجدهم مع إسلامهم متّبعين طريق المشركين رغم أنهم يدّعون محاربة هؤلاء الأواخر، وذلك بانخراطهم في مذاهب وفرق وجماعات وزوايا وإخوانيات ما أنزل الله بها من سلطان، وقد وصف الله من يفعلون ذلك بالمشركين قولا واحداً، ولكنه إشراك مع الله، وليس إشراك بالله وسنقف على الفارق بعد بضعِ جُمَل… قال تعالى: “… ولا تكونوا من المشركين * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (الروم – 31 و32)”، فعلمنا من ذلك أن كل المسلمين المؤمنين الذين فرّقوا دينهم إلى مذاهب وشِيَع لم يفعلوا سوى أنهم وضعوا أنفسهم موضع “المشركين مع الله”، لأنهم زادوا على اتباعِ ما أنزلَ اللهُ اتباعَ ما جاء به شيوخ وفقهاء تفرقوا فيما بيننم، ففرقوا بذلك الأتباعَ والتلاميذَ والمتعاطفين!..
فإذا سعى هؤلاء إلى استعمال العنف والقسر والجبر لدفع الناس بالقوة إلى اتباع مذهبهم، أو طريقتهم، أو أسلوبهم في الفكر والفهم، فإنهم بذلك يتحولون رأساً إلى “مشركين بالله” لأنهم “بالله ودين الله” يعملون على إخضاع غيرِهِم بالقوة والجبر…
إنّ هؤلاء بتعبيرنا المعاصر هم المتطرفون “الإرهابيون”… وهؤلاء أيضا يحاربهم الناس في كل دول العالم أينما حلوا وارتحلوا وأينما ثُقِفوا، وبالتالي فالأمْر الإلهي بمحاربتهم معمول به في كل بقاع الدنيا بلا استثناء، لأنه مبدأ إنساني كوني مزروع بالخِلقة والفطرة في أفئدة الناس كافة!!
المشرك مع الله إذَنْ، هو الشخص الذي يعبد مع الله شيئا آخر، آلهةً أو شيخاً أو زعيم مذهب أو طريقة، فيَضُرُّ بذلك نفسَه ويُسَوِّد صحيفتَه… أمّا المشرك بالله، بخلاف ذلك، فهو الذي يمارس الجبر “بالله”، أي “باسم الله” أو “باسم دين الله”، ليُشرِك غيره في اتباع رأيه أو مذهبه أو منظورِه بالقوة والعنف بمختلف أشكالهما… وهؤلاء هم الإرهابيون بكل دلالات الكلمة!..
مِن هنا نفهم جيّداً، فهماً صائباً ومعقولاً ومنطقياً، كيف أن الله عز وجل أمر بمقاتلة هؤلاء في كل مكان وفي كل وقت وحين… دون ان نحتاج إلى تخصيص “آية السيف” بميزة عن باقي آيات التنزيل الحكيم، ودونما حاجة إلى ارتكاب جريمة القول ب”الناسخ والمنسوخ” في آيات الله وأوامره وأحكامه…
نسأل الله السداد، والفهم الصواب، والسلامة والعافية!!!
ذ. عبد الحميد اليوسفي
تعليقات 0