النيابة العامة بين شهوة التوظيف وشبهة التهميش

بقلم الأستاذ حسن مزوزي محامي بهيأة القنيطرة..باحث في القانون
————————————————————————-
لا يختلف اثنان في كون مؤسسة النيابة العامة تعتبر من الأعمدة المركزية للعدالة المغربية ككل الجنائية و المدنية ,و هو ما جعلالدستور الأخير لسنة 2011 يمنحها مكانة متقدمة حين اعتبر أعضاءها قضاة يمارسون مهامهم وفق القانون.وأن التعليمات الموجهة لهم تكون كتابية وقانونية – الفصل 110 -. إلا أن مراجعة بعض مقتضيات مشروعي قانون المسطرة المدنية والمسطرة الجنائية تثير أكثر من علامة استفهام، وتدفع إلى التساؤل عما إذا كانت هناك إرادة لتطويع هذه المؤسسة العتيدة ، إما عبر تضخيم صلاحياتها خارج الحدود المعقولة، أو عبر تهميشها وإقصائها من مجالات تعد جزءاً من اختصاصها الدستوري، وفي مقدمتها جرائم المال العام.
أولاً – الطعون الأبدية ومسألة الأمن القانوني
من أخطر المقتضيات التي برزت في مشروع قانون المسطرة المدنية منح النيابة العامة آجالاً مفتوحة أو تكاد تكون غير محدودة للطعن في الأحكام , و هو اتجاه يطرح سؤالاً جوهرياً حول الأمن القانوني الذي يعد مبدأً دستورياً غير منصوص عليه صراحة ولكن مستنبطاً من مقتضيات الفصل الأول من الدستور الذي يقر دولة القانون وضمان الحقوق , ذلك أن الأحكام القضائية لا تستقيم وظيفتها إذا ظلت مهددة دائماً بإمكانية إلغائها بطعن متأخر، إذ أن استقرار المعاملات وحقوق المتقاضين يقتضي أن تكون آجال الطعون مضبوطة ومحددة و هو ما تبنته التجارب المقارنة (فرنسا، إسبانيا، ألمانيا) و التي تضع آجالاً صارمة للطعون حتى بالنسبة للنيابة العامة، حرصاً على التوازن بين الحق في المحاكمة العادلة وبين استقرار الأوضاع القانونيةوبالتالي، فإن توسيع سلطات النيابة العامة في هذا المجال قد يُفهم على أنه رغبة في الإبقاء على ورقة قضائية تُستعمل عند الحاجة، وهو ما يتعارض مع مبدأ الحياد والاستقلال.
ثانياً – جرائم المال العام بين المساءلة والجزاء
من جهة أخرى، يثير مشروع تعديل الفصل 3 من قانون المسطرة الجنائية إشكالية عميقة، إذ يميل إلى إقصاء النيابة العامة من صلاحية متابعة جرائم المال العام.و هو توجه
يصطدم مباشرة مع الفصل 36 من الدستور الذي ينص على أن “القانون يعاقب على المخالفات المتعلقة بالمال العام والرشوة والاختلاس”، كما ينص على أن “الدولة تضع سياسة فعالة لمحاربة الفساد”. فإذا ما تم إبعاد النيابة العامة، فمن يتولى مهمة تفعيل التقارير الرقابية الصادرة عن المجلس الأعلى للحسابات والمجالس الجهوية؟ هل ستظل هذه التقارير مجرد وثائق إدارية بلا أثر زجري؟ففي التجارب المقارنة، نجد أن فرنسا أحدثت النيابة الوطنية المالية (Parquet National Financier) سنة 2013 لمتابعة جرائم الفساد، ومنحتها صلاحيات واسعة للتدخل فوراً في القضايا ذات الطابع المالي.و فيإسبانياتتمتعFiscalíaAnticorrupciónبسلطات خاصة لمكافحة الرشوة واستعمال المال العام، و جعلها تشتغل بتنسيق مع قضاة التحقيق والشرطة القضائية , كما أن النيابة العامة في ألمانيا (Staatsanwaltschaft)تتابع جميع قضايا الاختلاس والفساد بشكل تلقائي بمجرد التوصل بالمعلومة أو التقرير.بالمقابل، يسير المغرب نحو تفريغ الدور الزجري للنيابة العامة، مما قد يفتح الباب أمام “المساءلة دون جزاء”، ويضرب في العمق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة المنصوص عليه في الفصل الأول من الدستور.
قد يعتبر البعض أن هذه القراءات مبالغ فيها، غير أن الواقع يؤكد أن الأمر يتعلق بـ توجه تشريعي ملموس. فمن جهة، هناك من يريد أن يُبقي للنيابة العامة صلاحيات واسعة لا تنضبط بالزمن (الطعون الأبدية)، ومن جهة أخرى هناك من يسعى إلى تحجيمها وإبعادها عن ملفات حساسة تمس بالثقة العمومية (المال العام).هذا التذبذب يعكس غياب تصور استراتيجي للسياسة الجنائية، ويكرس صورة مفادها أن النيابة العامة ليست مؤسسة مستقلة فعلاً، بل ورقة يتم التحكم في حدود أدوارها بحسب المصلحة السياسية أو الظرفية. فلا ينبغي أن يُفهم النقاش الدائر ذو صبغة تقنية ، بل هو نقاش يمس جوهر العدالة الجنائية لأن أي مساس بدور النيابة العامة ينعكس على ضمانات المحاكمة العادلة خصوصاً أن النيابة العامة تمثل المجتمع وتسهر على حماية النظام العام , كما أن إضعاف النيابة العامة في مواجهة الفساد والرشوة يسيء لصورة المغرب دولياً، خصوصاً في سياق التقارير الأممية وتقارير منظمة الشفافية الدولية فضلا عن كون التلاعب بأدوار النيابة العامة قد يعيد إنتاج ازدواجية قاتلة بين أجهزة الرقابة المالية التي تكتفي بالتشخيص، وبين غياب متابعة قضائية زجرية، وهو ما يفرغ شعار “ربط المسؤولية بالمحاسبة” من محتواه .
إن مؤسسة النيابة العامة ليست ملكاً للمشرع أو للحكومة، بل هي ركيزة من ركائز العدالة الدستورية. ومن ثَمَّ، فإن أي محاولة لتطويعها عبر شهوة التوظيف المستقبلي (منح آجال غير محدودة للطعن) أو عبر شبهة التهميش المقصود (إبعادها عن جرائم المال العام)، هي في حقيقتها مساس مباشر بمصداقية العدالة وثقة المواطن.
لقد أدلى الفاعلون الحقوقيون والقانونيون بآرائهم و أبدوا تخوفهم من تنزيل نصوص قانونية غير مستساغة في نقاشاتعمومية تحذر من توظيف أو تهميش النيابة العامة وتدافع عن موقعها كضامن للحقوق والحريات وحامية للمال العام، وفاعل رئيسي في حمايةالنظام العام .ليبقى الرهان الأكبر في الدور المنتظر من المحكمة الدستورية لكبح شهوة التوظيف و شبهةالتهميش اللتين تستهدفان مؤسسة النيابة العامة حماية لسمعة التشريع المغربي .
تعليقات 0