عودة إلى “القرآنيين” بصراحة أشد!!

بكل الصراحة الممكنة أقول وأؤكد:
إنّ الذين يعيبون على المؤمنين الرافضين لأي مصدر للتشريع الديني غير القرآن، ويَسِمونهم بوصف “القرآنيين” على سبيل القدح والتخوين، واحياناً على سبيل التكفير، ويتهمونهم “بهدم الدين عن طريق هدم السنة”… إنما يقدحون عن قصد أو عن غير قصد في النبي المصطفى ذاتِه، وفي خلفائه الراشدين، لأن هؤلاء جميعاً “كانوا قرآنيين بكل دلالات الكلمة”، وبكل تجلياتها في الواقع المعاش، ولأنهم قضوا حياتهم لا يرجعون فيها سوى إلى القرآن، ولا مصدر آخر لديهم للتشريع غير القرآن إطلاقاً، وهذا هو الذي أكده النبي بجلال قدره كرسولٍ مُبَلِّغٍ عن ربه، ثم كنبيٍّ مُعَلٍّمٍ ومربٍّ وقاضٍ وزعيمٍ، وكرئيس دولة لم يكن لها من دستور غير القرآن الحكيم!!
فهل نَسِمُ نحن أيضاً هؤلاء جميعاً بنفس التهمةِ المَوْسومِ بها قرآنيو هذا العصر؟! هل نتهمهم بالتالي بهدم الدين لأنهم كانوا يرفضون كتابة الحديث، لمّا كان حديثاً حيّاً بالفعل، بوجود قائله وبقوة الواقع، فما بالنا الآن بعد أن تحوّل إلى روايات بدأ جمعُ شًتاتِها بعد وفاة النبي وذلك الرعيل الأول بنحو قرنين أو يزيد، ولم تظهر صِحاحُها إلا بعد قرنين آخرين تَقلّص فيهما عددُها من ستمائة ألفٍ كما قال البعض، أو من مليونِ روايةٍ كما قال بعض آخر، إلى بضعة آلاف، على عهد العباسيين ومن تلاهم، علما بأن أقصى ما كان يرجع إليه “أهل الحديث” هم مجرّدُ آحادٍ عاشوا في عهد بني أمية وبني العباس، رَوَوْا بدَوْرهم عن آحادٍ من السابقين لم يتأكد البلوغ إليهم مباشرةً، وإنما كان البلوغ منحصراً في مَن روى أو حدّث عنهم، بذريعة كونهم عاصروا النبي ورووا عنه… فضلا عن هذا فأغلب الرويات نسبت للصادق الأمين أقولا يستحيل أن تصدر عنه، لاسيما المخالفة منها لأحكام رب العزة وأوامره!!
السؤال الذي يطرح نفسه هنا من تلقاء نفسه: “إذا كان ذلك المصدر صحيحا، فلماذا لم يتم تدوين ذلك في إبّانه على أيدي الرواة الأوائل بالذات، من الذين عاصروا النبي وعايشوه، بدلا من ظهور أسمائهم في أطمار التاريخ وأسماله كما تظهر الرقع مختلفة الأحجام والألوان في عِباءات الدراويش، أيام كان للدراويش ذِكْرٌ بين الغُوطِ والقُرى والمداشر”؟!!
سيقول أهل الحديث إجابة على هذا التساؤل: “إن النبي كان يمنع ويحظر تدوين أحاديثه وأقواله قيد حياته”، وهذا الإقرار لم يستطيعوا محوه وإخفاءه بل ثبّتوه في كل الصِّحاح بلا أدنى حرج ولا حياء، ثم أخذوا يلوون سطوره ومعانيه ويعصرونها ليخرجوا لنا باستنتاجٍ في غاية البلادة والغباء بقولهم: “إنه منع تدوين الحديث لخوفه من اختلاط ذلك مع آيات التنزيل الحكيم إبان فترات الوحي، وبالتالي فالتدوين بعد انتهاء الوحي صار مطلوباً لذاته لأنه يفسر ويؤوّل الآيات ويفصّلها لكي يستوعبَها قومُه”!!
حسناً… فلماذا لم تصل إلينا أحاديث مفسِّرة للقرآن، بل اضطلع بهذه المهمة الزائدة عن اللزوم مفسرون اتّضح الآن أنّ مبلغَ معظمِهم من العلم صِفرٌ على الشِّمال، وهذا ما تأكد لنا بعد إعادة قراءة تفاسيرهم، المعتمِدة أساساً على “معاجم لغوية” من صناعتِهم، هم وشيوخُهم، وليس بناءً على دلالات “اللسان العربي المبين”، الذي نزل به القرآن مفصّلاً وميسَّراً للفهم بتأكيد متكرر من لدن المصدر الرباني ذاته، فهل يفهم هؤلاء من التنزيل ما لم يفهمه قائلُه ومُنَزِّلُه، حاشاه وتعالى عن ذلك مطلق العلو؟!!
ما الذي ينبغي على العاقل، أيِّ عاقل، أن يفهمه من قول الحق جل وعلى عن كتابه الحكيم: “ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير”؟! هل عليه أن يَفهمَ من ذلك أن هذا القول في غير محله، حاشى رب العزة، وأنه بالتالي كتاب في أمسّ الحاجة إلى مَن يفصّله ويعالجه بخبرته اللغوية والمعرفية، أم ماذا ينبغي أن يفهمه كلُّ ذي عقل؟!
أمامنا الآن موقفان في غاية التعارض والتنافر:
الأول: يُلغي أصحابُه العقلَ ويدعون إلى نبذه جملةً وتفصيلاً في التعامل مع النص المنزل، وإلى عدم استعماله إلا في “فهم الحدود”، وقد تطرقتُ إلى هذه الدعوة السلفية الغبية على لسان شيخهم غريب الأطوار، “محمد حسين يعقوب”، الذي أطلق على العقل وصف “الدابةِ” المطلوب كبحُ جِماحِها، و”الحمارِ” المطلوب ربطُه بإحكام وتقييدُه في كل ما له صلة بالنص المنزَّل، وبالدين أساساً، والاكتفاء بالأخذ عن “أهل الذكر”، ظنّاً منه، وإن هو إلاّ اتّباع الظن، بأنه وشيوخه وأمثاله هم “أهل الذكر” الذين ينبغي بأمر من رب العزة أن “نرجع إليهم بالسؤال إن كنا لا نعلم” (“فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون”) وقد تطرقتُ لهذا القول أيضاً في مقال سابق مع تبيان أن أهلَ الذكر هم علماءُ أهل الكتاب وفقهاؤهم، وهو التوضيح الوارد في الجزء الأول من الآية ذاتها، والمحذوف عن قصد… وما باتت العودة من جديد إلى هذه النقطة مجدية!!
والثاني: يدعو إلى الامتثال للأمر الإلهي بالتدبر والتفكر بإعمال العقل، واستثمار مَلَكاته المؤهَّلة للغوص في معاني الآيات ودلالاتها ومقاصدها، التي فصّلها رب العزة تفصيلا دقيقا لكل من ألقى السمع وهو شهيد…
وبطبيعة أحوالهم، فهؤلاء يستكبرون علينا أن نلقي السمع ونستعمل العقل لتحقيق مطلب الشهادة… و”الشهادة” هنا بالمناسبة، أسوقُها بالمعنى القرآني الذي يجعلها استيعاباً للمعاني بعمقٍ وصدقٍ، وبدراسة وتجربة علمية ومعرفية تجعلانها أشبه بالمشاهَدَة بعين اليقين… وليس بالمعنى البليد الذي أعطاه المفسرون للشهادة بكونها “إشارةً إلى الذين قُتِلوا في سبيل الله”، وقد جاء في القرآن ذكرُ كلٍّ من هذين المعنيين المختلفين بالكلمات الدالة عليهما: الشهادة لمن حضر الأحداث والوقائع، والموت في سبيل الله لمن ضحى بنفسه في سبيل الدعوة لدين الله، والفرق شاسع بين اللفظيْن والمعنيَيْن!!
وأعود إلى اتهامهم القرآنيين “بهدم السنة كتمهيد لهدم الدين”، كما يقول السلفية ومن وَالَوْهم في الفكر والفهم والقول، لِأُحِيلهم بكل بساطةٍ على ما أنتجوه هم أنفسهم، وشيوخُهم من قبلهم، وربما تمادى في ذلك تلامذتُهم وأتباعُهم، من فتاوٍ لم يأذن الله لهم بالقول فيها لأنهم بذلك تطاولوا على مناط التشريع الديني، الذي يشكّل صلاحية ربّانية بكل المعايير، وفي طليعتها المعيار القرآني (“يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ”)، فحرّموا بتطاولهم ذاك ما أحلّه الله بعدم ذكره، كالإبداعات الثقافية والفنية المختلفة… وأحلّوا ما حرّم الله كالقول بالناسخ والمنسوخ، وبحلول الرواية محل الآية، وبمشروعية غزو أوطان الغير بحجة نشر الدعوة بالسيف، حتى أنهم استباحوا إراقة دماء الأبرياء من المسلمين أنفسهم، ومن أهل الكتاب وأهل الذمة، بعد الإفتاء بمروقهم وكفرهم وشِركهم!!
والأغرب في هذا المنحى الشيطاني، أنهم لم ينتبهوا في دوامة هذا الضلال المبين إلى أنهم “هم المشركون حقّاً”، الذين أمرت “آية السبف” كما يسمونها بقتلهم حيثما حلّوا وثُقِفوا… دون أن يفهموا، لفرط غبائهم ولشِدّةِ ما أخذتهم العزة بالإثم، أن “الشرك بالله” هو مقامهم بالذات، لأنهم أشركوا أنفسهم وشيوخهم بالله فيما يدعون إليه ويقومون به من استعمال للعنف والجبر بمختلف اشكالهما لإدخال الغير قسراً في حزبهم، ورأيهم، باسم دين الله، وضدّاً على مراد الله… فكانوا بذلك “إرهابيين” بكل معنى الكلمة، ولكنهم لا يستعملون عقولاً حنّطوها حتى يتسنى لهم أن يدركوا مراد الله بتعبير “الشرك بالله” في منطوق تنزيله الحكيم!!
إن هذا، إذن، لَهو رأس الداء الذي أصابوا به أنفسهم عن علمٍ وبسبقِ الإصرارٍ والتَّرَصُّد، ولن أقول “لو كانوا يعلمون”، لأنهم بكل تأكيد يعلمون ذلك ويفرّون منه “إلى الأمام” كما لم يجرؤ على ذلك فرعون بقده وقديده، لأنّ فرعون، بِخِلافهم، بعد أن سُدَّتْ في وجهه كل السبل اختار الفرار إلى ربه، رب موسى وهارون!!!
بقلم ذ. عبد الحميد اليوسفي
تعليقات 0