فرنسا عند مفترق التاريخ: أزمة غير مسبوقة تهزّ الجمهورية الخامسة

في قلب أوروبا، حيث كُتبت أولى صفحات الديمقراطية الحديثة، وحيث ارتفعت شعارات الحرية والمساواة والإخاء لتلهم العالم بأسره، تقف فرنسا اليوم على مفترق طرق حاسم، يضعها أمام تساؤلات وجودية عميقة تتجاوز تقلبات السياسة اليومية أو الأزمات الحكومية العابرة. فالأزمة التي تعيشها الجمهورية الخامسة ليست مجرد عجز برلماني أو تراجع اقتصادي، بل هي أزمة شاملة، سياسية ومؤسساتية واجتماعية وفكرية، تهدد بخلخلة أسس النموذج الفرنسي الذي صمد عقوداً طويلة، وتطرح بإلحاح سؤال المستقبل: هل لا تزال فرنسا قادرة على تجديد نفسها، أم أن ساعة التحول نحو صيغة جديدة قد دقّت بالفعل؟
رئاسة ضعيفة ومؤسسات متعثرة
منذ إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون سنة 2022 بدا وكأنّ الرئيس الذي جُسّد طموح التغيير قبل سنوات قد فقد جزءاً كبيراً من رصيده السياسي ومن سلطته الفعلية. فالدستور الذي صُمم عام 1958 ليجعل من رئيس الجمهورية محور النظام السياسي، يمنحه صلاحيات واسعة ويضعه في قمة هرم السلطة، لكنه يجد نفسه اليوم مكبّلاً ببرلمان لا يملك فيه أغلبية، وبمجتمع غاضب يرفض الإصلاحات التي تُفرض من فوق، وبمعارضة يسارية ويمينية على حد سواء لا تفوت فرصة لإضعافه.
إنّ جوهر الأزمة هنا هو التناقض بين قوة الصلاحيات الرئاسية المنصوص عليها دستورياً، وضعف القدرة السياسية على ممارستها في واقع منقسم. فالرئيس الذي لا يستطيع تمرير القوانين إلا عبر اللجوء المتكرر إلى المادة 49.3، يظهر في أعين الفرنسيين وكأنه يفرض إرادته بالقوة، فيغذّي بذلك شعوراً بانهيار التوازن الديمقراطي. والبرلمان، من جهته، عاجز عن إنتاج بدائل أو تقديم مشروع متكامل، فالمعارضة منشغلة بصراعاتها الداخلية أكثر من انشغالها ببناء توافقات، مما جعل الشرخ بين النصوص الدستورية والواقع السياسي يتسع بشكل غير مسبوق.
الخريطة الحزبية: تشظي بلا أفق
ما يزيد المشهد تعقيداً هو التفكك الحزبي الذي أصاب الساحة الفرنسية. فالأحزاب التقليدية التي صنعت الحياة السياسية منذ الجمهورية الرابعة فقدت وزنها لصالح قوى جديدة أكثر راديكالية. – اليمين الجمهوري تراجع إلى موقع ثانوي، فقد زعامته التاريخية، وأصبح يتأرجح بين دعم السلطة أو التحالف مع أقصى اليمين. – اليسار منقسم إلى طيف واسع، يضم الاشتراكيين الذين فقدوا هالتهم منذ عهد فرانسوا هولاند، والخضر الذين يرفعون شعارات بيئية من دون قاعدة جماهيرية واسعة، والراديكاليين بقيادة جان لوك ميلونشون الذين يملكون الصوت الأعلى لكنهم لا يحظون بإجماع حتى داخل معسكرهم. – أقصى اليمين، متمثلاً في التجمع الوطني بقيادة مارين لوبان، حقق اختراقاً سياسياً كبيراً، إذ تحوّل من قوة احتجاجية إلى منافس جدي على السلطة، مستفيداً من تآكل الثقة بالأحزاب الوسطية ومن موجة الشعبوية التي تجتاح أوروبا. – أما المعسكر الوسطي الماكروني، فبدا هشّاً بلا جذور شعبية حقيقية، يعتمد على شخص الرئيس أكثر مما يعتمد على أيديولوجيا أو تنظيم متماسك، وهو ما يفسر عجزه عن مقاومة التآكل السريع لشعبيته.
هذا التشظي جعل من المستحيل تقريباً بناء تحالفات مستقرة، وأدخل النظام في حالة شلل، حيث تتقدم قوى المعارضة لقطع الطريق على مشاريع السلطة من دون أن تملك في المقابل القدرة على تقديم حلول قابلة للتنفيذ.
أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة
في خلفية المشهد السياسي تقبع أزمة اقتصادية–اجتماعية عميقة، تزيد من حدة الاحتقان. ففرنسا تسجل عجزاً في الميزانية تجاوز 5%، فيما الدين العام يقترب من 110% من الناتج الداخلي الخام. النمو الاقتصادي ضعيف لا يتجاوز 1%، والتضخم المستمر يضغط على القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والشعبية.
هذه المؤشرات ليست مجرد أرقام جامدة، بل تُترجم إلى واقع ملموس في حياة المواطن الفرنسي: ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، هشاشة سوق العمل، صعوبة الولوج إلى السكن، تراجع الخدمات العامة، واتساع الفجوة بين النخب السياسية–الاقتصادية وبين المجتمع.
إصلاحات الحكومة لم تفعل سوى صب الزيت على النار، وعلى رأسها إصلاح التقاعد الذي أثار موجة من الاحتجاجات العارمة، حيث خرج الملايين إلى الشارع معتبرين أنّ السلطة مررت القرار بالقوة الدستورية من دون احترام النقاش الديمقراطي. المشهد أعاد إلى الأذهان روح “السترات الصفراء” التي هزّت عهد ماكرون الأول، وأكد أنّ الأزمة ليست ظرفية بل هي هيكلية، تكشف انكسار العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع.
فرنسا في العالم: تراجع الدور وانحسار النفوذ
على الصعيد الدولي، فرنسا التي طالما اعتبرت نفسها قوة عظمى، تجد نفسها اليوم أمام انحسار واضح في نفوذها. – في إفريقيا، خسر النفوذ الفرنسي مواقع تقليدية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، لصالح قوى جديدة مثل روسيا عبر مجموعة فاغنر، وتركيا التي نجحت في التغلغل اقتصادياً وثقافياً، والصين التي توسّع استثماراتها. – داخل الاتحاد الأوروبي، لم تعد باريس قادرة على الانفراد بالقيادة كما كانت في عهد ديغول أو ميتران، إذ أصبح الثقل الاقتصادي بيد ألمانيا، فيما القرارات الاستراتيجية الكبرى مرتهنة إلى التحالف مع واشنطن. – أما في المتوسط والشرق الأوسط، فقد تقلّص الدور الفرنسي إلى مبادرات محدودة، أمام صعود قوى إقليمية فاعلة مثل تركيا وإيران وإسرائيل.
هذا التراجع الدولي يعكس أزمة هوية عميقة: فرنسا التي أرادت أن تكون صوت أوروبا المستقل، تجد نفسها اليوم تابعة نسبياً للمحور الأطلسي، وفاقدة القدرة على فرض رؤيتها في الملفات الكبرى.
من الثورة الفرنسية إلى الجمهورية الخامسة: ثقل التاريخ
لفهم خطورة اللحظة الراهنة لا بد من العودة إلى المسار التاريخي الطويل. فمنذ الثورة الفرنسية عام 1789، قادت فرنسا مسيرة بناء الديمقراطية الحديثة: إعلان حقوق الإنسان والمواطن، ثم الجمهورية الثالثة التي أرست تقاليد التمثيل البرلماني، ثم الجمهورية الرابعة التي غرقت في الفوضى الحزبية، وصولاً إلى الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال ديغول عام 1958 لتمنح البلاد استقراراً عبر رئاسة قوية.
لكن ما صنع قوة الجمهورية الخامسة يتحول اليوم إلى نقطة ضعفها: فالرئاسة المهيمنة تبدو عاجزة في ظل الانقسام، والبرلمان التعددي يفتقر إلى الانضباط الحزبي، والشعبوية تكتسح مساحات الشرعية القديمة. إنها مفارقة تاريخية: النظام الذي صمد في وجه أزمات 1968 والتعايشات المتكررة بين اليمين واليسار، يجد نفسه اليوم أمام أزمة غير مسبوقة، لأنّها تمسّ جوهر العقد بين المؤسسات والمجتمع.
السيناريوهات الممكنة
أمام هذا المأزق، تتعدد السيناريوهات التي يتداولها المراقبون: 1. الاستمرار في إدارة الأزمة عبر اللجوء الدائم إلى 49.3 والمساومات الظرفية داخل البرلمان، وهو ما يعني إطالة عمر النظام الحالي لكنه يفاقم أزمة الشرعية. 2. إصلاح دستوري محدود، مثل إدخال جرعة من التمثيلية النسبية في الانتخابات التشريعية، ما قد يسمح بتمثيل أوسع للقوى السياسية، لكنه لا يعالج جذور الأزمة. 3. الانتقال إلى جمهورية سادسة، أكثر برلمانية وتمثيلية، تعكس واقع التعددية، لكنها قد تفتح الباب أمام عدم الاستقرار الذي هرب منه ديغول عندما أسس الجمهورية الخامسة. 4. صعود أقصى اليمين إلى السلطة، وهو سيناريو لم يعد مستبعداً في ظل تقدم مارين لوبان في استطلاعات الرأي، ما قد يشكل نقطة تحول تاريخية ليس فقط في السياسة الداخلية، بل أيضاً في صورة فرنسا على الساحة الدولية.
خاتمة: فرنسا بين ماضٍ مجيد ومستقبل غامض
ليست فرنسا اليوم أمام أزمة عابرة يمكن حلها بتغيير رئيس وزراء أو تعديل حكومي، بل أمام لحظة انكشاف تاريخي يضع نموذجها السياسي على المحك. إنها أزمة مجتمع يبحث عن عقد اجتماعي جديد، ودولة تسعى إلى استعادة مكانتها في عالم متغير، وجمهورية تسائل نفسها: هل انتهى زمن الخامسة، وهل آن الأوان لصياغة سادسة؟
ما بين إرث التنوير وروح الثورة ومجد الجمهورية الخامسة، وبين واقع الانقسام الاجتماعي والتراجع الدولي، تبدو فرنسا في حاجة إلى إعادة تعريف نفسها. والخيارات المطروحة ليست مجرد مسارات سياسية، بل هي خيارات وجودية تحدد ما إذا كانت باريس ستبقى منارة عالمية للقيم الديمقراطية، أم ستتحول إلى دولة عادية تبحث عن هوية ضائعة في زمن التحولات الكبرى…
لحسن أقرطيط…باحث في العلاقات الدولية والأنظمة السياسية
تعليقات 0