الخطاب السياسي المغربي المعاصر: بين الإقناع والسخرية

حسن مسكين
————
تسعى هذه المداخلة إلى رصد وتحليل بعض المقومات والعناصر التي أصبحت مهيمنة حاليا في خطاب العديد من القادة والزعماء السياسيين المغاربة، والمتراوحة بين ضمور آليات الإقناع والحجاج ، واتساع مساحة السخرية والفرجة. الشيء الذي فرض علينا البحث في أسئلة عديدة تروم تفكيك وتحليل بنيات هذه العناصر والظواهر الجديدة، التي غدت قاسما مشتركا لدى مجموعة من الفاعلين السياسيين المغاربة ، وبيان أثر ذلك النوع من الخطاب في المشهد السياسي المغربي المعاصر.
1- الزعيم السياسي المغربي والإيتوس:
يشكل الإيتوس (Ethos) أو الصورة التي يشكلها المتلقي أو السامع عن الخطيب ، إحدى أهم الآليات الحجاجية التقنية التي يستند إليها الخطيب عامة والسياسي خاصة ، للتأثير في الجمهور ، وحمله على الاستجابة لإرادته . ذلك أن الإيتوس إلى جانب الباتوس واللوغوس تعد عناصر أو تقنيات من صناعة الخطيب ، صادرة عن إرادته ومقصديته ، لغايات محددة سلفا ، ولأهداف مخطط لها قبلا. فهي بالتالي عناصر تقنية ، داخلية ، وليست مجرد عناصر أو أدوات إضافية تستجلب لإضفاء نوع من الحالات أو الصور الخارجية، المساعدة لتقوية الخطاب وضمان انسجامه [1]
ولكي يصل الخطيب السياسي إلى تلك الأهداف التي تؤهله للتأثير في المخاطب وإقناعه، يلجأ إلى استغلال كافة الإمكانات والملكات المتوفرة لديه ، من أخلاق ومزايا وفضائل، فيمزجها بما هو مشترك مع الجمهور ، لتتحول في الخطاب إلى حس وجداني عام ، أو ثقافة مشتركة ترقى إلى ما يشبه الفضيلة أو النموذج الذي يغري الجميع، فيشيد به، ويعمل بالتالي على هديه، في انسجام وتكامل تامين مع استراتيجية الخطيب وأهدافه .
وإذا كنا نميز في هذا السياق الخطابي بين الهيئة أو الصورة التي ينشئها الخطيب ، وبين اسم الخطيب ذاته ، بما يحيل إليه من حمولة دلالية ورمزية واجتماعية وثقافية، فإن العنصرين معا يشتغلان متكاملين ومنسجمين في الخطاب ، إذا أحسن الخطيب توظيفهما في الزمان والمكان المناسبين ولأهداف محددة ، مؤطر لها بعناية وتوجيه خاصين ، غيرأنها تبقى مع ذلك مفتوحة على تعديلات وتغييرات قد تمليها مستجدات جريان الخطاب أثناء مواجهة الجمهور الذي يتفاعل بدوره مع الخطيب. وهو ما يفيد ، من جهة مساهمة المتلقي أو السامع في إنتاج الخطاب ، ومن جهة أخرى وجود تكامل تفاعلي حي ومنتج بين الإيتوس والباتوس في صناعة خطاب تواصلي حجاجي فعال .
غير أن ثمة أسئلة تواجه المحلل حينما يروم الوصول إلى تحديد دقيق لهذه الذات ، في الخطاب الحجاجي عامة ، والسياسي بخاصة ، بمعنى هل نحن أمام ذات أو صورة واحدة للخطيب بعدما تم إنشاؤها وتشكيلها خطابيا ، تماثل ذاته الواقعية أو الحقيقية ؟
أم أمام ذاتين مختلفتين ، واحدة واقعية والأخرى خطابية ؟ الأولى لها صلة بالتلفظEnonciation) ) والثانية متعلقة بالملفوظ (Enoncé) ؟
لكي يمارس حضوره القوي والمنتج لحالات ، من جهة تفيده هو، ومن جهة أخرى تنقل المتلقي من وضع معين إلى وضع آخر، موجه ومتحكم فيه ، ينطلق الخطيب بداية من اتخاذ موقع في الخطاب ينسجم وخطته في التواصل ثم التأثير ثم الحجاج فالإقناع، ويضع المتلقي بالمقابل في موقع يلائم هذه الإستراتيجية ويخدمها ،ويسمح بالتالي بإنجاز حالات ووضعيات جديدة، تحدد علاقة الخطيب بالمتلقي وتمنح هذا الأخير إمكانيات التوجيه والتحكم في الخطاب والمتلقي على نحو أكثر دقة وفاعلية ، مستغلا ومستثمرا كل إمكاناته اللغوية وذكائه وثقافته وتجربته ومعرفته بالحالات النفسية والاجتماعية للمتلقين ، خاصة تلك التي تمثل قواسم مشترك بينهم ، سواء بين مكونات الجمهور أو بين هذا الأخير والخطيب السياسي .
1- 1 – مكونات الإيتوس بين الداخل والخرج:
إذا كان هدف الخطيب السياسي يبدو جليا في سعيه لإقناع الجمهور بمحتوى خطابه ، وحملهم على التصرف بمقتضاه ، فإن تحديد مصدر هذه القوة الحجاجية و الإقناعية يبدو صعبا، بمعنى من أين تتولد هذه القوة ، هل من الإيتوس بوصفه:
أ- صورة خطابية ( داخلية): يصنعها الخطيب لذاته ، وتبدو واضحة أثناء عملية إنتاج الخطاب والتلفظ به، فيستحسنها ، وقد أخذت طريقها نحو الجمهور ؟
ب– صورة ما قبل خطابية (خارجية) : هي أيضا من صنيع الخطيب ،لكنها تتميز عن السابقة بكونها مستمدة لا من تمثله هو لذاته ، بل من تمثل الجمهور لما يتسم به الخطيب من قدرات ومؤهلات ومميزات ليست لغيره ، بل هي مصدر قوته وتفرده، وذلك مثل مكانته الاجتماعية والثقافية واللغوية والسياسية والدينية والسلطة التي يجسدها ، إضافة إلى رصيده التاريخي والنضالي الذي راكمه إلى حدود إنتاج وتداول خطابه[2]
إن هذين النمطين من الإيتوس (الداخلي والخارجي )، إضافة إلى العوامل الأخرى المساهمة في تشكيلهما ، هي المسؤولة عن تحديد درجة ومستوى قوة أو ضعف الحجاج والإقناع في الخطاب ، إذ ليست ذات الخطيب ومؤهلاته المتعددة والمتنوعة هي التي تضمن له القوة والفعالية ، بل إن الأمر يخضع أيضا إلى تلك العلاقات الدقيقة والمعقدة التي تنسج بين الخطيب والجمهور ، سواء عن ذاته أو عن بعضهما البعض ، والتي تتحدد في المشترك الثقافي والرمزي والديني ونوع السياق والمقام الذي تم فيه تداول الخطاب .حيث إنها تمارس نوعا من الحضور الدائم في ذاكرة ووجدان الخطيب والجمهور ، سواء تم الوعي بها أم لا ، من خلال الإفصاح عنها في الخطاب أو إضمارها فيما وراء الملفوظ .
1-2 -الإيتوس وحجاج القدوة:
لكي يصل الخطيب المحاجج إلى إقناع الجمهور، يلجأ أيضا إلى تقنيات حجاجية حددها شاييم بيرلمان في :حجة السلطة ، وحجة الشخص وأعماله ، وحجة القدوة[3]
فإذا كانت حجة السلطة تقوم على أساس استدعاء أقوال أو أفعال لها ميزة من حيث مصدرها لامن حيث محتواها ، فتكون قادرة على دعم دعوى الخطيب وتقويتها ،وقد تكون هذه السلطة إما شخصية معينة خارجية أو تكون هي الذات نفسها بماهي منجزات ورصيد سياسي أو نضالي أو ثقافي أو وضع اعتباري أو اجتماعي ، فإن حجة الشخص وأفعاله تقوم على بناء وتقييم أعمال باعتبارها تجليا لشخص ذي مكانة معتبرة ، متفق عليها. ، بينما تستند حجة القدوة على الاقتداء في إنجاز الأفعال على شخص أو مجموعة أشخاص يحضون بتقدير الجمهور
يقول الزعيم إدريس لشكر موظفا حجة القدوة ، من خلال شرعية أعضاء حزبه التاريخية والنضالية وتجربة الاعتقال التي عانوا منها ، مستندا إليها في تشكيل صورته وصورة حزبه لدى الجمهور في سياق حملته الانتخابية ل 7 من أكتوبر2017، وبعد أن عرف حزبه انشقاقات وصراعات أترث على صورة الحزب لدى الرأي العام ومناضليه وساهمت في تراجعه سياسيا وفكريا وإيديولوجيا وانتخابيا، وأمام هذا التراجع الواقعي لم يجد الزعيم سوى الاستنجاد بالتاريخ والماضي لعله يخدم الحاضر ويعيد لصورة الحزب بعضا من أمجاده التي تلاشت بفعل عوامل كثيرة ، وسمحت بالتالي في أن يصبح هو الزعيم الأول للحزب:
“ – احنا جينا لمدينة نعرف كاتحاديين، آش كاتساوي هذا المدينة .
-لأننا ماجناش لها سالتين بحال بعض الناس، من بعد ما تكادات الأمور .
– هذه المدينة كاتفكر ذاكرة الشعب المغربي، كانت تأوي رموزنا ، ومناضلينا والسجن ديال القنيطرة شاهد على شكون اللي كان كايكافح ، وشكون الي كان كايناضل ،من أجل الديمقراطية فهذا البلاد .
– هذا السجن ديال القنيطرة إلى يمكن لو يتكلم . وإلى يمكن ليسليل ديالو تتكلم .غاتكلم على العشرات والمئات من مناضلي الشعب المغربي . اللي كانوكايجيو لقنيطرة فالسجن ، بعد المحاكمات الشهيرة ، اللي عرفاتها البلاد، سواء في ثلاتة وستين منين كانت محاكمات الاتحاديين ، و فالسبعين ، والثلاثة والسبعين ، و فغيرها .
– كا يعرفوا المغاربة من كان يضحي وقتها ، باش نوصلوا إلى أن نكون دولة الأمن والاستقرار .
– الحمد لله إلى كنا كانعموا بالاستقرار اليوم في وطننا.وإلى كان الإنسان يمكن لو يخرج في الصباح إلى عمله ، أويخرج إلى حقله في الفلاحة وهو مطمئن،لأنه سيلتقي أسرته. فالفضل يرجع إلى النضالات والكفاحات التي خاضها الشعب المغربي في السنوات الماضية “[4] .
بهذا التوظيف للشرعية النضال والاعتقال وتجربة السجن ، بوصفها قدوة يرى الزعيم ان الجمهور مطالب باقتدائها والسير على منهجها إن أراد المضي في تحقيق الديمقراطية ، والانتصار على الخصوم وأعداء الديمقراطية ومن ثمة تحقيق التنمية والحداثة . كما أن الزعيم هنا قد سعى غلى بناء صورة نموذجية له ولحزبه تحمل الجمهور على الاقتناع بهذه التجربة المتفردة لشخوص متفردين هم القدوة .
1-3 -الزعيم وحجاج السلطة:
بخلاف الزعيم الاشتراكي إدريس لشكر، لجأ الزعيم الإسلامي عبد الإله بن كيران إلى حجة السلطة استنادا إلى أخلاقه (الإيتوس)و منجزاته الشخصية وخبراته التي راكمها سواء خلال مساره الدعوي أو الحزبي أو الحكومي
حيث مزج الزعيم بين هذه السلط رغم تنوع مرجعياتها ومصادرها لينتج منها صورة نموذجية له في مواجه خصومه السياسيين ، يقول:
“- وقفت ، بفضل الله الإضرابات العشوائية اللي كانت عندكم.
– عتقت ، بفضل الله، التقاعد ديال المتقاعدين ديالكم. آجيو واش هذوك المتقاعدين الكبار شدو واحد ربعة لاف ريال فهاذ الشهر ولا مازال؟ واللي ماشدهاش هاد المرة ، يشدها في الشهر جاي إن شاء الله.ربعة آلاف ريال يعني ميتاين درهم.
– لأننني منين وصلت ، الثقافة ديالنا هي هذي ، خصني نفكر في الناس اللي تحت ، وأنا عارف باللي كاينة مشاكل، وباقي كاينة مشاكل عند الناس ديال الإنعاش الوطني وباقي عدد ديال المشاكل كانفكر فيها. وإن شاء الله الرحمان الرحيم إلى كان ممكن باقي نصلحها في المستقبل إن شاء الله .
– عاونت ، ساعدت المقاولة المغربية ،اللي كانت كاتسال للدولة ومالقاتش اللي يعطيها رزقها.
– أعطيناها حوالي سبعة المليار ديال الدرهم، ستة فاصلة ثمانية ديال المليار درهم. باش تنفست خلال خمس سنوات، وأعطينا غير للسكك الحديدية والكهبراء ، اعطيناهم 3.8 ديال الدرهم، لأن المقاولة هي المحرك اللي كايحرك الاقتصاد.
– ماكاندير بحال هذا اللي كايهدد الناس باش يصيفط ليهم الضرائب.
– ماكانديرش بحال هذاك اللي كايبتز الناس.
– اماكانديرش بحال هذاك اللي كايجيب رجال الأعمال عندو للفنادق، ويفرض عليهم يكونوا مرشحين ديالو.
– أنا المرشحين ديالي كانجيبهم بطريقة ديمقراطية من الحزب، والشعب كايتبناهم وكايصوت عليهم.
– ماجايبش أنا الناس اللي عندهم المعامل. واللي عندهم المؤسسات . أو اللي باش يدوزو خصهوم يعطيو ربعة ألاف ريال. “[5]
واللافت في هذا النوع من الخطاب أن الزعيم لايتوانى في أن يضفي عليه السمة أوالروح الدينية ، فتصبح المنجزات التي تميز الزعيم رهين إرادة وقدرة إلهية ولوفي مقام سياسي . ولعل هذا ماعابه بيرلمان وبلونتان حينما حذرا من الخلط بين مجال يمكن ضبطه وملاحظته وبالتالي تقييمه ونقده ، ومجال سلطة متعالية عن الضبط كالسلطة الإلهية أو الدينية [6]
1-4-الزعيم واستراتيجية الإيتوس :
لا يكتسب الخطاب السياسي قوته الحجاجية إلا بالتفاعل الناتج عن نوع العلاقة القائمة بين صورة الخطيب عن جمهوره وصورة الجمهور عن الخطيب ، فالمتكلم والمتلقي ليستا ذاتين منفصلتين عن الخطاب ، بل هما في قلب الخطاب ” فلا يمكن تلقي الخطاب بمعزل عن الصورة التي تكونت في ذهننا عن المتكلم ، سوا أكانت نتيجة معرفة مسبقة عنه ، ام كانت نتيجة انطباعات تشكلت أثناء تلقينا لهذا الخطاب. وبناء على هذا يكتسب الخطاب قيمته وفعاليته من السلطة التي يحظى بها المتكلم ومن السمات التي تحدد هويته في وعي السامعين ، فقيمة الخطاب مستمدة من قيمة صاحبه ، وتأثيره في السامعين مستمد من تأثيرصورته فيهم ، أو بتعبير برنارد بوفون ” لاوجود للوجوس مقنع من دون إيتوس ” .فالمصداقية الأخلاقية تشكل شرطا ضروريا لقبول الحجة ، إذ ينتقل الاتفاق على الشخص إلى خطابه، ويحصل التطابق بين الثقة في الخطيب والثقة في خطابه. وهذه الهمية التي يحظى بها شخص المتكلم في العملية الإقناعية، هي التي جعلت أرسطو يقر بأن القوة الإقناعية لمتكلم خبير تفوق القوة الإقناعية للخطاب في ذاته ” [7]
والواضح ان الزعيم عبد الإله بن كيران ومن خلال التعبيرات التي يختارها والاستعارات التي يتصيدها من حقول دلالية متعددة والحضور القوي لجسده أثناء أدائه للخطاب، فضلا عن السلط الأخرى التي راكمها والتي تعتبر رصيدا حاضرا باستمرار ي تمثلات الجمهور ، كل ذلك قد منحه قدرة على بناء صورة قائمة على هذه الأسس لتكون داعمة لخطابه ، في توجيه الجمهور وإقناعه ،سواء قبل إنجاز الخطاب أو أثناء إلقائه ، وصولا إلى الأثر الذي سيخلفه فيهم ، والذي على أساسه سيتصرفون . إن الأسلوب والطريقة التي يقدم بها هذا الزعيم خطاباته ، تسترعي الانتباه ، وتمارس تأثيرا خاصا على المتلقي ، حتى قبل أن يمارس هذا الأخير تفسيره وتأويله لمحتواها ، فيكفي أن يتكلم الزعيم للتشكل صورته ، لتستقر متميزة ، متفردة عن الزعماء الآخرين ، حيث يصبح القول دليلا على صاحبه ، إنه الإيتوس وقد تجسد في الخطاب على حد قول باتريك شارودو” فبمجرد ان نتكلم يتجلى جزء من وجودنا عبر مانقوله ، ولا علاقة لهذا بموقفنا الإيديولوجي أو بمحتوى فكرنا أو برأينا، ولكنه ذو صلة بعلاقتنا بذواتنا التي نعرضها على الآخرين”[8]
وإذا سلمنا بأن اللغة في ذاتها ذات قوة تأثيرية حجاجية في ذاتها ، فإنها حينما توجه في الخطاب لهدف الإقناع المقصود تتضاعف قوتها التأثيرية لتصبح سلطة موجهة، لأنها لايكتفي بتقديم صورة الزعيم في نمذجتها ، ولكن في تعارضها معا صورة الخصم الذي تتقوى بهدمه وكشف عيوبه ودحض دعواه باعتبارها مجرد أباطيل، حيث إن نجاح الزعيم في بناء إيتوسه النموذجي لا يتم إلا في علاقة التعارض مع إيتوس الخصم سواء أكان الخصم مفردا أم جماعة .
يقول الخطيب السياسي بن كيران:
“- يكفيني فخرا عبد الإله بنكيران،أنه غيبقى مسجل أنه القانون ديال التغطية الصحية ديال الآباء والأمهات عن الرجل وامراتو وولادو،عبد الإله بنكيران اللي كان من وراها باش
يوصل .
– الحمد لله والرضى ديال الوالدين كاملين، اللي غادي يرضيو على ولداتهم باش يكون عندهم الإمكانيات باش يمشي للمستشفى.
– خاص يكون فالمسؤولية اللي عندو الكبدة عليكم ، واللي عارف يتصرف باش يمشي لهذا الشي بشوية بشوية.
– وانا غادي نقولكم واحد القضية أقسم بالله العلي العضيم. لوكنت كان شوف فهذا الزعماء ديال الأحزاب السياسية شي واحد اللي باني لي أمين على هذا الشي ويزيد يكون أكثر، لمن القلب ديالي يكون هو يفوز ونمشي أنا نرتاح في داري . والله العظيم . وايني كاندور وجهي
– كانشوف شي وحدين بسم الله الرحمن الرحيم . لا غير سمحوا لي هادوك آخوتي عندهم منطق آخر ، ماكايآمنوش بكم كمواطنين عندكم الكرامة .
– كايأمنوا بأنكم انتم مواطنين خصكم تكونوا تحت الصباط ، واللي تكلم فيكم – صبورا خليوني نتكلم معاكم- تانقولكم كلام صعيب وتقيل . واللي تكلم فيكم ولا قالو الراس ديالو يحتج، يايما يدارلو دوسي ، يايما تمشي لو ضريبة. يايما يعلم الله آشنوا غيوقع لو “.
نشيرهنا إلى أن أساليب أو استراتيجيات بناء الإيتوس لاسيما في خطاب بن كيران تتعدد بين نوع يبنيه هو عن نفسه من خلال استحضار رصيده في مختلف مجالاته وآخر يتمثله الجمهور عنه، سواء قبل إنتاج الخطاب أو أثناء تلقيه أو بعد استيعابه وفهم دلالاته وأبعاده، ونوع يقوم على حجج شبه عقلية يقدمها الخطيب أو أهواء يدغدغ بها عواطفهم أو أساليب بلاغية تأسر قلوبهم فتطيب لها نفوسهم مثل الهزل والنكتة والتهكم والسخرية من الخصوم والتي أحسن صناعتها في العديد من خطاباته.
2- الخطاب السياسي المغربي المعاصر: االسخرية في قلب السياسة:
2- 1- السياسة والسخرية:
إذا كانت السياسة حلبة صراع مستمر بين عدة أطراف حول الظفر بقيم مادية ورمزية ، فإن الوصول إلى هذه القيم يتطلب من الفرقاء السياسيين ، وفي مقدمتهم القادة والزعماء إنتاج خطاب سياسي يمكنهم من النفاذ إلى قلوب الجمهور واستمالة عواطفهم وأحاسيسهم ، قبل عقولهم ، لتكون معبرا إلى نيل ثقتهم والحصول على أصواتهم . لذلك لا يتوانى الزعيم السياسي في استعمال كل الأدوات والوسائل التي تكفل له النيل من الخصم بإظهاره في أحط صورة ،عن طريق السخرية والضحك والتهكم .
فمن أين تكتسب السخرية هذه القدرة الفائقة على التأثير في الخصم والزج به في حالة من الارتباك والخضوع التام لأدواتها الفعالة والفتاكة ، خاصة في الخطاب السياسي؟
هل يتعلق ذلك بقدرة الخطيب السياسي على توظيفها بالطريقة الملائمة وفي السياق والمقام المناسبين؟
أم هل لذلك أيضا علاقة بنوعية المتلقي الذي يعيد إنتاجها بتأويلها وفك شفراتها اللغوية والرمزية.
هل يشكل تقاطع السخرية مع مفاهيم أخرى عامل غنى وخصوبة دلالية ورمزية أم عامل تشويش وغموض ، يضاعف من صعوبة تحديدها وضبط معناها؟
وهل تقف وظيفة السخرية في هذا النوع من الخطاب عند الاستهزاء بالخصم ؟ أم تتجاوز ذلك إلى وظيفة إعادة تشكيل المجتمع وتقويم الخلل القائم في الإنسان باعتباره أهم فاعل فيه؟
2-2 – السخرية وصعوبة التحديد : قوة السخرية ونجاعتها في استعصائها على التحديد الصارم :
السخرية من المفردات الملغزة ، الجامعة لجملة من المعاني المفارقة ، وهي مشتقة من سخر يسخر سخرية ، جاء في لسان العرب لابن منظور” سخر منه وبه سخرا وسخرا ومسخرا وسخرا بالضم وسخرة وسخريا وسخرية : هزئ به [9] . وقال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم) [10]
فالسخرية عالم من المعاني والظلال المثيرة للغريب والعجيب من الدلالات والرموز التي تغري الأسماع وتشد الانتباه ، بفضل ما تتركه في نفس المتلقي من إحساس بالضحك والتهكم والاستهزاء وغير ذلك من المعاني المحايثة مثل القوة والقهر والتسلط والإذلال ، وهي معاني تظهر الخصم صريعا وقد أنهكته أدوات السخرية وجعلته حديث الناس وموضوع تندرههم وتفكههم .ذلك أن في السخرية لين وطراوة وذكاء ودهاء وحسن اقتناص لعيوب الخصم الأخلاقية أو الخلقية أو السياسية ، لتوظيفها في المقام والزمان المناسبين ليتحقق المراد وينال الهدف. ولذلك شبه فعل الساخر بفعل الأفعى التي لا تصدر صوتا ، لكنها تنتج سما زعافا وتخلف أثرا عميقا يقتل الخصم من شدة ما يتصيد فيه من عيوب فيضخمها ويضفي عليها أوصافا مصنوعة وينشرها بين الناس في شكل كاريكاتوري أساسه المبالغة . عجيبة
وتعود أهمية السخرية في جميع الخطابات عامة ، والخطاب السياسي بخاصة إلى كونها تتقاطع مع مصطلحات أخرى تتكامل معها ، للنيل من الخصم والتعريض به على نحو فريد وعجيب. لاسيما في مثل هذه المقامات التي تتداول فيها الأخبار السياسية على نحو عام وواسع ،بحيث لا تبقى صورة الخصم الساخرة حبيسة حيز ضيق بين السياسي وخصمه، بل إنها تنتشر وتشيع وتغدو ملكا للجميع .يسخرونها لتحقيق أغراض عديدة تهم موقفهم من وضع سياسي أو حزب أو قائد أو زعيم أو حالة استرعت انتباههم فواجهوها بهذه الأداة ، مادامت ، من جهة تكشف عن تدمرهم وعدم رضاهم ، بل وانتقادهم لذلك السلوك أو الفعل السياسي، ومن جهة أخرى لأنها تقيهم مراقبة ورد فعل السلطة ، التي قد تجد في ذلك خرقا للقانون أو إخلالا بالنظام العام ، أو تعد على خصوصية الغير أو تجريحا له.
ومن المصطلحات التي تتقاطع مع السخرية نجد التهكم:
2- 3- التهكم: هو نو ع من الاستهزاء بالغير بصوت مسموع، يداخله شيء من الاستعلاء والاستخفاف الموغل في ما يراه المتهكم نقصا أو عيبا في الخصم ، يستحق أن يكون موضوعا للكشف والإظهار على نحو خاص ، يثير ضحك واستهزاء الجمهور . حيث يجد فيه هذا الأخير فرصة سانحة للاحتجاج عن ظلم أصابه أو حق ضاع منه أو تنفيس عن وضع صعب يعانيه ويكابده بسبب هذا السياسي موضوع السخرية . فنكون بذلك أمام نقد واحتجاج ممزوج بالسخرية والتهكم والاستهزاء الموصل إلى الهجاء المر، الممزوج بضحك هو بمثابة نوع من الثأر أو القصاص ، الذي يشفي غليل الخطيب وأنصاره،يعودون إليه متى احتاجوا إليه . ومن هنا بالذات تأتي أهميته وقوته وخطورته والآثار الناتجة عنه .
2-3- الضحك: مشتق من فعل ” ضحك يضحك ضحكا وضحيكا . وفي الحديث يبعث الله السحاب فيضحك، أحسن الضحك ، جعل انجلاءه عن البرق ضحكا استعارة ومجازا كما يفتر الضاحك عن الثغر. وكقولهم ضحكت الأرض إذا أخرجت نباتها وزهرها.
وتضحك وتضاحك فهو ضاحك وضحاك وضحوك . وضحكة: كثير الضحك.
والضحكة: الرجل الكثير الضحك يعاب عليه ، وامرأة مضحاك كثيرة الضحك . والضحك: الثغر الأبيض. والضحك العسل. وقيل الضحك: الشهد . وقيل الزبد وقيل الثلج”[11]
2-4- الفكاهة : مشتقة من فكه الرجل القوم بملح الكلام ومزاحه الذي تطيب النفس به وتنشرح إليه . وفكه الرجل بالكسر ، فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا . والفكاهة المزاح ، والتفاكه: التمازح ، والفاكه : صاحب التمر . وفكههم بملح الكلام تفكيها : أطرفهم بها ، والاسم الفكيهة والفكاهة . وفاكهه مازحه والأفكوهة الأعجوبة “[12]
وللضحك مزايا عدة ، منها الترويح عن النفس التي تنشرح بفعل ما يترك فيها من إحساس خاص بالمتعة والفرح نتيجة سماعها أو مشاهدتها لما هو غريب وعجيب ومفاجئ تميل النفس إليه وتنجذب نحوه طلبا للمزيد .
إن ما يجمع هذه الأساليب الثلاثة يكمن أساسا في المقومات أو العناصر الآتية : الغرابة والعجب والمفارقة والمبالغة التي تضفي على موضوع السخرية مجموعة من الصفات والصور المصنوعة بإحكام وإتقان كي تؤثر في الجمهور ويتفاعل مع مثيراتها وقد تهيأت كل جوارحه لتفصح عن رضاها واستحسانها لما يقدم إليها عبر إنتاج مستويات وأنواع من الضحك . الذي قد يبدأ ” بالتبسم ، ثم الإهلاس وهو إخفاؤه ثم الافترار والانكلال
وهما الضحك الحسن ، ثم الكتكتة أشد منهما ، ثم القهقهة ، ثم الكركرة ، ثم الاستغراب، ثم الطخطخة ، ثم الإهزاق والزهقة وهي أن يذهب به الضحك كل مذهب ” [13]
ويبدو لي أن إحدى مكامن القوة والتفرد في السخرية يعود في أحد وجوهه إلى استبطانها لمعاني عديدة، لكنها متكاملة ، يغني بعضها البعض دلاليا ورمزيا، وإن كنا لا ننفي ما بها من فريق دقيقة جدا ، لاترقى إلى اختلافات كبرى تخرجها عن دائرة السخرية، مثل الهزىء والهزل والتهكم والهجاء والتفكه والمفارقة والتعريض والتندر والتنكيت والمدح بما يشبه الدم والدم بما يشبه المدح ، وغيرها من المعاني المحايثة ، التي تعد في العمق ضلالا دلالية للسخرية وليست عوالم مفارقة لها .
وهذا بخلاف ما يراه بعض الباحثين الذين ينعتون هذه الخاصية “بالاضطراب ” سواء في التصور العربي أو الغربي ، معللين رأيهم هذا بالقول” والحقيقة أن هذا الاضطراب في مفهوم السخرية معاين حتى في الثقافة الغربية . فقد سجل د. س ميوك أنه ” لأسباب مختلفة ، بقي مفهوم السخرية مفهوما غير مستقر ومطاطا وغامضا . فهو لايعني اليوم ماكان يعنيه في القرون السابقة ، ولايعني نفس الشيء من بلد إلى آخر ، وهو في الشارع غيره في المكتبة ، وغيره عند المؤرخ والناقد الأدبي . فيمكن أن يتفق ناقدان أدبيان اتفاقا كاملا في تقدي،هما للعمل الأدبي، غير أن أحدهما قد يدعوه عملا ساخرا ، في حين يدعوه الثاني عملا هجائياSatirique أو هزليا Humoristiqueأو فكاهيا Comique أو مفارقا Paradoxale أو غامضا Ambigüe .”[14]
ويبدو أن تطور وتنوع حاجيات ومتطلبات الخطباء ، لاسيما السياسيين منهم قد فرض توجيه الباحثين للكشف عن مقومات السخرية بشتى أنماطها وتجلياتها وخصائصها ووظائفها في الخطاب ، متجاوزين بذلك إهمال البلاغيين القدماء العرب والغرب لها، حين قرونها بالفئات والوضعيات الدنيا ، التي لا ترقى بالأدب الرفيع أو المقام السامي.
كما كان لعوامل أخرى متصلة بتطور علوم اللسان والبلاغة الجديدة والتداوليات والحجاجيات والعلوم المهتمة بالخطابات غير البصرية وسائر العلامات الأخرى الأثر الواضح في ازدياد الاهتمام بها بحثا وتنظيرا ودراسة وتحليلا .
وبذلك تكون هذه الأساليب ( السخرية والتهكم والضحك) إضافة إلى النكتة هي ” آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات ، أونوع من القول يعمل في منشئه وأساسه على تحويل حالة الضيق إلى حالة من الشعور الخاص بالمتعة أو اللذة”
في مقابل الخيبة والحسرة والإذلال الذي يشعر به الخصم [15]
وبالعودة إلى مجموعة من الخطابات السياسية المغربية المعاصرة ، نجد أنها قد وظفت السخرية بشكل كبير ولافت وغير مسبوق ، إلى مستوى يسمح لي بالقول إن الخطيب السياسي المغربي (الزعيم) قد تخلى عن السياسي وانخرط في ممارسة السخرية والفرجة.
فأين تتجلى السخرية في هذه الخطابات؟
ومن هم روادها اليوم؟
وما هي أهم مقوماتها وخصائصها ؟
3- الخطاب السياسي المغربي الراهن : قليل من السياسة كثير من السخرية والفرجة:
– فأما مقومات السخرية فمتعددة ، يمكن إجمالها في مقومين رئيسيين اثنين:
المقوم الأول : التضاد أو التعارض الدلالي بين الدلالة الظاهرة والدلالة المضمرة . المقوم الثاني : التداول الدلالي المقترن بأهداف تبنى وتشيد ولا تعطى .
ذلك أن السخرية تظهر شيئا وتريد شيئا آخر، تفصح عن معنى وترمي إلى معنى غيره.
من هنا فهي وإن كانت تتقاطع مع الاستعارة في جانب الغرابة والغموض ، إلا أنها تختلف معها فالسخرية قائمة على التعارض ، بل المفارقة ، في حين تقوم الاستعارة على مبدأ المشابهة.
كما أن السخرية تقوم أيضا على مبدأ القصدية الذي لا يعطيه الخطيب سلفا ، وإنما يساهم المتلقي في استخراجه من عمقها ، مستحضرا العديد من المعطيات التداولية من مشترك ثقافي ولغوي واجتماعي ، ليوجه به دلالة الهزء والهزل والتهكم ويرسم حدودها القصوى حسب ما يرمي إليه الخطيب ، ذلك أن السخرية كما عرفتها الباحثة كيربرا أركشيوني هي أن ” تتهكم وتهزأ وتفضح وترمي هدفا “. ومن ثم فالخطاطة العاملية للسخرية تشمل بالضرورة المرسل والمرسل إليه والعامل الهدف“[16].
وإذا كان هذان المكونان أو المقومان يتكاملان فيولدان سخرية ما ، إلا أن الشرط التداولي هو الذي يحسم في توليد السخرية لتبلغ هدفها بكل دقة ، إذ بدون انتهاء المتلقي إلى كنه السخرية والغوص في أعماقها ، المتوارية خلف الملفوظ يستحيل بلوغ مقصد الخطيب الساخر الذي هو جماع الهزىء والهزل والتهكم الذي قد يصاحبه تعريض أو ضحك أو عناصر أخرى تقوي السخرية وترسخ آثارها في الخصم ، فتبدو جلية .
– 3-1 السخرية مفارقة كبرى : تتحقق السخرية بالاستناد إلى المفارقة التي تفيد في إحدى معانيها قلب الدلالة واللعب على المجاز اللغوي والمراوغة في التعبير الذي يبدي قولا ويريد ما يخالفه ، حيث نكون أمام القول وما يناقضه أو يعارضه ، مما يدفع المتلقي إلى إعمال فكره وعقله وقلبه ورصيده الثقافي واللغوي وحسه المشترك من أجل كشف المعنى غير الظاهر، الذي هو مقصد الخطيب الساخر
يقول الزعيم عبد الإله بن كيران ساخرا من خصمه إلياس العماري الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة ، مباشرة بعد فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات 7 أكتوبر 2016
“ خدينا الزرقة ، وكلينا المرقة، وصوتنا على النقا “
فالخطيب هنا يعرض باقتضاب بلاغي وحجاجي ، مشبع بسخرية لاذعة، مشوبة بتهكم حاد، وهو يخاطب إلياس العماري وأنصاره في حزب الأصالة والمعاصرة ، جمع فيها بين متناقضات عديدة في لفض مقتضب ومكثف ، لكنه يحمل معاني كثيرة ، يضع فيها خصمه في مرمى سهامه الساخرة . و يتمثل ذلك في كون الزعيم وأنصاره قد خدعوا الخصوم السياسيين الذين هم في هذا المقام أنصار حزب الأصالة والمعاصرة وأظهروهم في وضع حرج وحالة مضحكة ، لأنهم مصرون جميعا على التصويت للزعيم بن كيران دليلا على وفائهم له ولحزبه ، وحتى في حالة ما إذا وجد منهم من تلقى مال الخصوم (الزرقة: مائتا درهم) وأكل طعامهم الدسم (المرقة)، فإنه يظل مع ذلك مناصرا للزعيم ،فيكون بذلك قد حقق هدفين بفعل واحد: خداع الخصوم ونصرة الزعيم . لتكتمل بذلك حلقة المفارقات التي جسدتها هذه السخرية بإعلان المناصرين للزعيم تصويتهم على النقاء الذي يتجسد في الزعيم وحزبه ، في مقابل إعراضهم عن الخصوم ، بل وخداعهم والإيقاع بهم والاستهزاء بهم.
وإذا كان الخطيب الساخر هنا قد صرح بنظافة يده ويد حزبه من كل مال غير مشروع أو فعل غير قانوني أو خلق دميم ، بتعبير (النقا)، فإنه أراد في الآن نفسه الإحالة على نقيض النقاء والصفاء ، وهو الاتساخ وما يحيل إليه من معاني محايثة مثل التزوير والغش وخيانة الأمانة وشراء الأصوات وإقامة الولائم للحصول على أصوات الناخبين .
لاشك أن للجمهور المتلقي بما يملكه من قدرات ذاتية ورصيد فكري ولغوي وما يتقاسمه مع الزعيم من مشترك لغوي وثقافي واجتماعي يؤدي دورا أساسيا في استخراج تلك المعاني الخفية في قول الخطيب الساخر هذا . لأن قوة السخرية وفاعليتها في إلحاق أثر التهكم والاستهزاء بالخصم ، لا ترجع إلى ظاهر القول الذي يعلمه الجميع ، وإنما إلى ما خفي فيه واستتر واحتاج إلى طول تفكير وإعمال فكر وتأويل ونظر .
– وقال بن كيران يسخر من خصمه السياسي حميد شباط الأمين العام لحزب الاستقلال:
“- جاو عند داك لهبيل ديال فاس ، أوكالوا لو: غير خرج من الحكومة .
– كالوا ليه ،والله أعلم غير خرج من هذا الحكومة ، أوغادي تطيح .
– أوغادي نعطيوك انت ، ولا شي واحد من دياولك الرئاسة ديال الحكومة .
– كليه تيق ، غير تيق، كايتيق ، كايتيق“[17]
يلاحظ هنا أن الخطيب السياسي قد استعار لفظ الهبيل للتعبير به عن أقصى ما يمكن أن يوصف به زعيم سياسي آخر ، وقد تم تجريده من أهم ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات الأخرى ألا وهو العقل . غير أن الزعيم الخطيب لم يستعمل لفظة المجنون أو الأحمق ، وإنما اختار لفظة “لهبيل” لما لها من دلالات قوية ضاربة في الثقافة المحلية لجمهوره ، بحيث تثير في أنفسهم إحساسا خاصا ، يتمثلون فيه الخصم وقد ذهب عنه عقله وبالتالي لم يعد مؤهلا للتميز بين الضار والنافع ، والخير والشر، والحق والباطل والواقع والخيال ، فيتصرف تصرفات غريبة ، ويقدم على أفعال مشينة ، ويلقي أقوالا عجيبة ،لأنها غير مؤطرة بعقل يحكمها أو رؤية توجهها ، بل هي تهدي وتتصرف بلا ضوابط ، بدليل أنه حينما طلب من الزعيم الخصم (الهبيل ديال فاس) الذي صارت له الريادة في الحمق والجنون بدل الريادة في الفعل السياسي أن ينسحب من الحكومة ، صدق ذلك ، وانطلت عليه الحيلة ، مادام قد فقد أهليته ، ولم تعد له القدرة ولا الاستطاعة كي يضع ما يقال له أوما يطلب منه على ميزان العقل عامة ، والنظر السياسي بخاصة كي يتصرف على ضوئه، ويحسن بالتالي الاختيار وهو البقاء في الحكومة ، وليس الخروج منها كما أوحي له من لدن من غرروا به ، ونصبوا له شركا وقع فيه بسهولة كبيرة وسرعة فائقة ، ألا وهي إسقاط الحكومة ، وتسليم رئاستها إليه أو لأحد أعضاء حزبه المقربين منه .
وهكذا نصبح في هذا النموذج بالإضافة إلى تعارض دلالي بين زعيم سياسي يفترض فيه أن يقود حزبه لممارسة دوره الطبيعي في الحكومة حسب ما حصل عليه من أصوات الناخبين وبناء على برنامجه ، وبين ماهو على أرض الواقع ، الذي كشف حسب قول الزعيم الخطيب أننا أما زعيم أو رائد في الحمق السياسي ، جعل مدينة فاس رهينة حمقه المتكرر في العديد من المواقف و الوقائع والتي تجاوزت الأقوال إلى الأفعال ، التي وصلت ذروتها بانسحابه من الحكومة . معتقدا أو متوهما أنه إما سقوطها ، وإما تولي رئاستها ، وهذه هي قمة تجليات الحمق السياسي الذي اختار له الخطيب السياسي بن كيران لفظ “الهبيل، اللي كايتيق” .
إنها إذا قمة السخرية المبنية عل التعارض والمفارقة وقلب المعاني ولعبة التجلي والإخفاء.
3-2-السخرية هدم وبناء: تعتمد السخرية أيضا في بناء عالمها الخفي ، المولد لحالات الضحك والاستهزاء والهزل على هدم صورة الخصم ، وإعادة تكشيلها من جديد وفق استراتيجية يشيدها الخطيب بالتركيز على عناصر الضعف عند الخصم ، سواء أكانت أخلاقية أم خلقية متعلقة به أم بحزبه أو مناصريه . حتى إذا لم تكن حقيقة ، ابتدعها الزعيم وبنى عليها عالما تحفه السخرية من كل جانب . كما هو الحال في هذا النموذج الذي لا يخلو من عناصر أقرب إلى الفرجة.
يقول حميد شباط وهو يشخص بسخرية تغير صورة خصمه السياسي بن كيران بعد أن صار رئيس الحكومة:
” – لبستي الكرافاطة ، الله يسهل عليك ، الله يعاونك. درتي النظاظر كوحل، الله يعونك.
– اركبتي في الميرسيديس الكبيرة والطويلة، الله يكمل عليك بخير .
– كالس في الفيلات في حي الأميرات في حي الرياض، منور، الله يكمل بخير .
– مابقتيش تشرب الماء ديال الروبيني . وليتي تشرب غير…، غير الماء الممتاز ، الله يعاونك.
– وانقصتوا من اللحية ، الله يعونكم .
-غلاضيتوا، الله يكمل بخير .”[18]
إن الزعيم حميد شباط ، وإن كان يعرض بسخرية ممتدة ومتواصلة تغير صورة عبد الإله بن كيران ، مركزا على مظهره الخارجي ( الكرافاطة ، النظاظر ، اللحية )، إضافة إلى المأكل والمشرب والمسكن ، إلا أنه كان يهدف إلى ماوراء هذه المظاهر الخارجية ، أي إظهار التناقض الصارخ بين ما كان يدعيه بن كيران من بساطة في العيش مسكنا وطعاما ولباسا ، وهو خارج رئاسة الحكومة ، وما يمارسه الآن وهو داخلها . لكن الأهم عند الزعيم الخطيب هو الصيغة المتناغمة التي قدم بها حالة الخصم الجديدة ، ووقع تكرار تلك العبارات المتشابهة لفظا ومعنى ، بالإضافة إلى تلك اللازمة القولية التي ينهي بها كل عبارة ساخرة ( الله يعاونك ، الله يكمل عليك بخير) ، ففيها دم بما يشبه المدح ، وسخرية ظاهرها إشادة وباطنها تهكم ، يهدم كل مابناه الخصم قبل دخوله إلى الحكومة ، ليبني على أنقاضه صورة سلبية لذات الخصم التي لا تقف عند الظاهر بل تعكس ماهو أعمق إنه الفعل الذي يعكس حقيقة الخصم وجوهره الذي يصر دائما على إخفائه قولا ، دون أن يقوى على ذلك فعلا . وما تلك العلامات التي شدد عليها الخطيب السياسي حميد شباط سوى تلك الشجرة التي تخفي غابة مايقوم به خصمه عبد الإله بن كيران من أفعال يراها الزعيم هدامة وتثير السخرية والضحك.
3-3– السخرية تشهير وتقويم : تقوم السخرية كذلك على التشهير بالخصم ، من خلال تتبع دقيق لعيوبه ومتالبه وإبرازها على نحو مبالغ فيه ، حتى تبدو لدى الجمهور مستهجنة وقبيحة ، خاصة إذا تمكن الخطيب من تقديمها متكاملة العيوب فيها ماهو خلقي وماهو خلقي ، أساسه التناقض أو المفارقة التي تكشف سوءات الخصم وتضعه في موضع حرج لا يستطيع الفكاك منه أو نفيه ، مثل ما جاء في قول الزعيم حميد شباط في خصمه عبد الإله بن كيران: “
– كال ليهم عطوني ست شهور نغير المنكر في هاذ البلاد.
– اعطيناه عام ونص ماغير والو. ولا هو المنكر”
ثم يقول :
” – واش تبعتوا واحد الفيديو . السي عبد الإله بن كيران اللي كايدعي الإسلام.
يقبل زوجة السفير الأمريكي. يعنقها من وجهها . واش هذا هو الإسلام .؟ !”[19]
هكذا يعمد الزعيم الحطيب على تصيد كل الهفوات والأخطاب والعيوب لدى الخصم ليبعثها من جديد ، بعد أن يضفي عليها عناصر الغرابة والعجب ، ويمنحها حياة جديدة ، فينشرها بين الناس لتصبح حديثهم الأهم وشغلهم الشاغل ، خاصة من جهة مرجعية الحزب الموسومة بالإسلامية ومن جهة أخرى مؤسسة رئاسة الحكومة .
والملاحظ أن الخطيب حميد شباط انطلق من سؤال لايريد منه جوابا، وإنما تأكيده وتثبيته في الجمهور ، بعدما صار شائعا على وسائل التواصل الاجتماعي ، ولم يعد سرا يخفيه الخصم ، ليتظاهر بما يخالفه في نظر الزعيم الخطيب . إذ الأمر في نظره خطير لأنه يمس مسألة شرعية وسلوكا لم يقم به إنسان من عامة الشعب ، وإنما رجل دولة ومسؤول حزب ورئيس الحكومة ذو مرجعية إسلامية .
لم يكتفي الزعيم بإيراد الخبر وإنما أطر له ، وعمل على إشاعته ، بعد أن أعاد إخراجه في قول يشخص الواقعة التي يعتبرها الخطيب خطيرة ، بعد أن أضاف لها عناصر أخرى تظهرها على نحو بالغ الخطورة . كيف لا والأمر حسب الخطيب لايتعلق بسلام عادي ، بل بعناق على الوجه . إن الجانب الخفي في قول الخطيب والذي عمل على فضح جانب منههو أن الأمر يتعلق بسابقة في تعامل زعيم سياسي إسلامي محافظ مع شخصية أجنبية وغير مسلمة . لهذه الأسباب ختم الخطيب عبارته بتساؤل المستغرب من هذا السلوك ، الذي يريد أن يؤكد من خلاله أن هذا السلوك يتنافى مع قيم الإسلام .
ولذلك وجب تصحيحه ، حتى لا يصبح سلوكا طبيعيا أو قاعدة يسير عليها بقية الساسة المغاربة .
وبذلك يكون الخطيب قد وجه سخريته لتحقيق وظيفتين أساسيتين ، هما التشهير والفضح من أجل التقويم .
نستنتج مما سبق أن هؤلاء الزعماء السياسيين الجدد قد طبعوا الخطاب السياسي بخصائص غير مسبوقة ، تجعل منه خطابا ساخرا وفرجويا بامتياز ،وهو ما يكس بوضوح اختلالات كبيرة في أسسس ومقومات تهم بنيات الأحزاب وأنظمتها ومناضليها وأدبياتها وإيديولوجياتها وطرق اشتغالها التي أفرزت هذا النمط من القادة والزعماء المهووسين بالسخرية والفرجة بدل ممارسة التنافس السياسي.
المصادر والمراجع
– العربية:
. – القرآن الكريم
– خطاب إدريس لشكر الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في مدينة القنيطرة خلال الحملة الانتخابية 7 أكتوبر2016.
– خطاب عبد الإله بن كيران في مدينة طنجة خلال الحملة الانتخابية للانتخابات التشريعية 7 أكتوبر 2016.
– سميرة الكنوسي : بلاغة السخرية في المثل الشعبي المغربي : مجلة فكر ونقد ، ع 35، يناير 2011 ، المغرب .
– محمد بن يعقوب الفيروزبادي ، القاموس المحيط ، ط8 ، مؤسسة الرسالة ،دمشق ، 2005 .
-محمد مشبال ، في بلاغة الحجاج ، ط1 ، دار كنوز ، الأردن ، 2016.
– ابن منصور الثعالبي ، فقه اللغة وسر العربية ، فصل مراتب الضحك ،تحقيق
عبد الرزاق المهدي، ط1 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 2002 .
– المصطفى الشاذلي السخرية في التراث الشفاهي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، الرباط 2014 .
– ابن منظور، لسان العرب ، ط1 ، دار المعارف ، القاهرة .
– الأجنبية:
– Amossy (Ruth), Les idées reçues, Sémiologie du stéréotype, paris, Nathan,1991.
– Amossy (Ruth), L’argumentation dans le discours, Armand colin, paris, 2010 .
-Chaïm Perlman, L’empire rhétorique, Librairie philosophique j.VRIN , 2008 .
-Christian Plantin, L’argumentation, éditions du seuil, paris,1996.
-Traité de l’argumentation, éditions de l’université de Bruxelles, 2000 .
-Berton Buffon, La parole persuasive, éd Puff , paris 2002.
-Patrick charaudeau , le discours politique , les masques du pouvoir, éditions Vuibert ,paris 2005.
– مواقع إلكترونية:
–https://www.youtube.com/watch?v=x1BCv2-npxA
– https://www.youtube.com/watch?v=0miIURFMIQ8
–https://www.youtube.com/watch?v=NHTynP4V5zI
[1] — Amossy (Rut), Les idées reçues , Sémiologie du stéréotype , paris, Nathan, p60.
– Amossy (Ruth),L’argumentation dans le discours, p61.
[2] – أنظر لمزيد من التفصيل Amossy (Ruth), p70-80
[3]– انظر Chaïm Perlman, L’empire rhétorique ,Librairie philosophique j.VRIN ,2008 , p118.
[4] – من خطاب إدريس لشكر الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في مدينة القنيطرة خلال الحملة الانتخابية 7 أكتوبر2016.
[5] – أنظر خطاب عبد الإله بن كيران في مدينة طنجة خلال الحملة الانتخابية للانتخابات التشريعية 7 أكتوبر 2016.
[6] – Christian Plantin, L’argumentation, éditions du seuil , paris,1996.-
Traité de l’argumentation, éditions de l’université de Bruxelles,2000,p413 .-
– أنظر : – محمد مشبال ، في بلاغة الحجاج ط1 ، دار كنوز ، الأردن ، 2016. ص 169 .[7]
-Berton Buffon, La parole persuasive ,éd Puff ,2002,p87-88.
[8]– Patrick charaudeau , le discours politique , les masques du pouvoir, éditions Vuibert 2005,p66.
– ابن منظور ،لسان العرب ، مادة سخر ، ط1 ، دار المعارف ، القاهرة .[9]
[10] – سورة الحجرات ، الآية 11 .
[11] – ابن منظور، لسان العرب، مادة ضحك .
[12] – أنظر: ابن منظور لسان العرب ، والفيروزبادي ، القاموس المحيط ، مادة فكه.
12 – ابن منصور الثعالبي ، فقه اللغة وسر العربية، فصل مراتب الضحك ،ص 73 ، تحقيق عبد الرزاق المهدي، ط1 ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 2002 ، ص 73 .
[14]– سميرة الكنوسي : بلاغة السخرية في المثل الشعبي المغربي : مجلة فكر ونقد ، ع 35- يناير 2011 ، المغرب ، ص74 .
[15] – لعبة الوجه والقناع: الدلالة الملتبسة في خطاب النكتة المغربية ، ضمن كتاب الهزل والسخرية في التراث الشفاهي، تنسيق المصطفى الشاذلي ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية -الرباط2014 ، ص 78 .
– سميرة الكنوسي: بلاغة السخرية في المثل الشعبي المغربي ص 75 ، مرجع سابق.[16]
.https://www.youtube.com/watch?v=x1BCv2-npxA – انظر ذلك على الرابط الإلكتروني [17]
.https://www.youtube.com/watch?v=NHTynP4V5zI أنظر ذلك على الرابط الإلكتروني : [18]
.https://www.youtube.com/watch?v=0miIURFMIQ8 – أنظر ذلك على الرابط الإلكتروني :[19]
تعليقات 0