الإجراأت التمهيدية للتفريد التنفيذي للجزاء الجنائي بين الردع وإعادة الإدماج

أنوار غنام، باحث في القانون الخاص
مقدمة
لم تعد المعاملة العقابية للمحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية كما كانت عليه في الماضي ففي الوقت الذي كان يمثل فيه الايلام والردع الغرض الأساسي للعقاب، كان سلب الحرية هو وسيلة للانتقام من الجاني، فكان يتم إلقاؤه في غياهب السجون يكابد ما بها من قسوة ووحشية وغلظة في المعاملة من القائمين عليها حتى أحد الأجلين: الوفاة أو انقضاء مدة العقوبة المحكوم بها.
وعند تطور غرض العقاب إلى الإصلاح والتأهيل بدت الحاجة إلى ضرورة إعادة النظر في المعاملة العقابية لأولئك المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية، وبات جليا أن هذا الغرض لن يتحقق إلا من خلال تطبيق معاملة عقابية تتسم في المقام الأول بطابع إنساني يبتعد بها عن القسوة والوحشية، ويستفاد فيها من التطور الذي شهده المجتمع الانساني، هذا التطور الذي ساهم في تطبيق برامج ونظم للتأهيل قائمة على أسس علمية ومعتمدة على الحرفية والتخصص والتنوع، بحيث تواجه التباين القائم بين فئات المحكوم عليهم سواء من الناحية البدنية أو العقلية أو النفسية أو الاجتماعية.
وكان لزاما حتى تؤتي هذه البرامج ثمارها أن يسبق تطبيقها وضع نظم تمهد لها وتضمن نجاحها في تحقيق الهدف منها. هذه النظم التمهيدية تتمثل في فحص المحكوم عليهم من مختلف الجوانب البيولوجية، النفسية، العقلية، الاجتماعية، يتبعها مرحلة ثانية تتمثل في تصنيفهم، بحيث يتم اختيار أسلوب المعاملة العقابية الذي يلائم شخصية كل محكوم عليه.
هذه البرامج لها جوانب متعددة تتصل بالعمل والتهذيب والتعليم والرعاية الاجتماعية والصحية، كما تتصل بضرورة تدعيم الصلة بين المحكوم عليه والمجتمع الخارجي ويكون ذلك كله في إطار سيادة النظام داخل المؤسسة العقابية من خلال تكريس قاعدة الثواب والعقاب.
لقد شكل الجمع بين الردع وإعادة الادماج إحدى أهم الاشكالات التي حاول المشرع المغربي أن يجد لها حلولا في تعامله مع نزلاء السجون، وهم يقضون وينفذون مدد العقوبات المحكوم بها عليهم، فالمعادلة الصعبة كانت وما تزال، هي كيفية زجر وعقاب مرتكب الجريمة وفي نفس الوقت إصلاحه وتهذيبه وإعادة إدماجه، ولعل تحقيق مثل هذه الموازنة ليس بالأمر الهين بين حماية المجتمع من مضار الجريمة وآثارها وزجر مرتكبيها، وبين إصلاح هؤلاء وتهذيبهم وتحصينهم من الوقوع في براثين الانحراف والجريمة مرة أخرى تمهيدا لإعادة إدماجهم في المجتمع كأفراد صالحين تائبين يساهمون في بناء مسيرة المجتمع وتقدمه وارتقائه.
لم يعد الجزاء الجنائي في ظل السياسة الجنائية الحديثة يهدف إلى ايلام الجاني أو الانتقام منه، بل صار هدفه في المقام الأول إصلاحه وتأهيله، وعلى ضوء هذا، وجب توجيه أساليب المعاملة العقابية وجهة تحقق هذا الهدف. ولأن أساليب المعاملة العقابية مختلفة ومتنوعة، أصبح ضروريا أن تبدأ مرحلة التنفيذ العقابي بإجراء دراسة كاملة لمختلف الظروف المحيطة بالجاني، بناء عليه نطرح الإشكالية التالية: إلى أي حد استطاع المشرع المغربي ومعه المؤسسات السجنية التوفيق بين الردع وإعادة ادماج المحكوم عليهم؟
للإجابة على هذه الإشكالية سنتبع خطة دراسية ثنائية، حيث سنتناول نظام الفحص من داخل المؤسسات السجنية (المطلب الأول)، على أن نتعرض لنظام التصنيف واختيار أسلوب المعاملة الأنسب لحالة السجين (المطلب الثاني).
المطلب الأول: نظام الفحص داخل المؤسسات السجنية
يستمد الفحص أهميته من اعتبار أن التأهيل هو الهدف الأساسي للمعاملة العقابية وهو ما يقتضي تفريد هذه المعاملة، بحيث تلائم شخصية كل سجين وتجدي في تقويمها، علما أن التفريد يكون غير ممكن بدون فحص دقيق لشخصية السجين والإلمام بعوامل إجرامه، وذلك بهدف توجيهه إلى برنامج التأهيل الملائم لما كشف عنه الفحص. فماهي أهمية الفحص؟ وما هي أجهزة الفحص؟
الفقرة الأولى: أساس الفحص وأهميته
يعتبر الفحص الذي يتم أثناء تنفيذ العقوبة السالبة للحرية نوع من الدراسة الفنية التي يقوم بها أخصائيون في مجالات مختلفة لإجراء الدراسة على المحكوم عليه لتحديد شخصيته، وبيان العوامل الإجرامية التي دفعته إلى ارتكاب الجريمة حتى يمكن الملاءمة بين ظروفه الإجرامية وبين الأساليب التأهيلية المعمول بها بالمؤسسة السجنية، والتي تجعل الجزاء المحكوم به يحقق أهدافه التأهيلية.
فالفحص على هذا الأساس، هو العملية الشاملة التي يخضع لها المحكوم عليه من الناحية العضوية والعقلية والاجتماعية، مع الأخذ بعين الاعتبار نوع العقوبة ومدتها وسوابقه الإجرامية، وغير ذلك من الأمور التي يتوقف عليها إصلاحه، بغرض المواءمة بين العقوبة وظروف المحكوم عليه، ويتولى تنفيذ هذا الفحص القائمون على أمور المؤسسة السجنية، من حراس وأطباء نفسانيين وأخصائيين اجتماعيين، بحيث يلاحظون سلوك السجين وعلاقته مع باقي السجناء، وهكذا فإن نتائج الفحص تكون عاملا فاصلا في تحديد طريقة وأسلوب معاملته.
وإذا كان الفحص الذي يجرى على السجين ينص على جوانب مختلفة، بمعنى أنه لا يتم التقييد بنوع واحد من الفحوصات، فما هي أنواعها؟ وهل يتم الأخذ بها على مستوى الواقع العملي؟
- الفحص البيولوجي: يقصد به إخضاع السجين لفحوصات طبية وسريرية متخصصة بحسب ما تستلزمه الحاجة، والتي يمكن من خلالها تشخيص العلل البدنية التي قد تعرقل تأهيله، كالأمراض المعدية أو المزمنة، أو أي خلل آخر في أعضاء الجسم، فيتم التركيز على هذه الأمراض وعلاجها، وبالتالي فإن هذا النوع من الفحص قد يفرض ضرورة تمتيع السجين بنوع خاص من المعاملة بما يتناسب مع طبيعته البدنية، وقد يتطلب ذلك أيضا وضعه في مؤسسة مختصة بالمرض، أو توجيهه إلى نوع خاص من العمل العقابي.
- الفحص النفسي والعقلي: ينصب الفحص النفسي على دراسة شخصية السجين من الناحية النفسية، كقياس درجة الذكاء والذاكرة باستخدام مجموعة من الأساليب لهذا الفحص كالمقابلة والملاحظة، بهدف تحديد أسلوب العلاج الملائم وفهم بعض الجوانب من شخصيته، وهذا النوع من الفحص يرمي إلى توجيه سلوك السجين إلى العمل المناسب لإمكانياته واستعداداته، وعلاج ما قد يكون مصابا به من علل نفسية، في حين أن الفحص العقلي يهدف إلى تبيان الحالة العقلية والذهنية والعصبية للمحكوم عليه، بما يتيح تحقيق الملاءمة بين حالته ونوع المعاملة العقابية التي يجب أن يخضع لها، وفي حالة تعذر هذه الملاءمة يتم إيداعه بمؤسسة لعلاج الأمراض العقلية.
- الفحص الاجتماعي: ينص هذا الفحص على دراسة الوسط الاجتماعي للمحكوم عليه، وبصفة علاقته مع زوجته وأولاده وأصدقائه وزملائه في العمل، ومهنته ودرجة تعليمه، بهدف الكشف عن العوامل الاجتماعية التي قد تكون وراء ارتكاب المحكوم عليه للجريمة، حتى يمكن مواجهة تأثيرها عليه وحلها تمهيدا لتأهيله. وهكذا نصت الفقرة الأولى من المادة 132 من المرسوم المنظم للسجون على أنه: “يتعين على المشرف الاجتماعي فتح ملف لكل معتقل يضمن فيه وضعيته العائلية والاجتماعية وظروفه الشخصية مع مقترحات علمية، ولهذه الغاية، يجب على مكتب الضبط القضائي إشعار المشرف الاجتماعي بكل اعتقال جديد”.
وهكذا، تسند مهمة المساعدة الاجتماعية للمشرف الاجتماعي بالمؤسسة السجنية، حيث يقوم بعدة مهام، منها إنجاز تقرير حول كل معتقل، بالإضافة إلى المبادرة بإعانته على حل مشاكله الشخصية والعائلية والمهنية والمادية، التي تنتج أو تتفاقم بسبب حرمانه من الحرية، وترمي بالخصوص إلى مساعدة عائلته إذا كانت في حاجة لذلك، والرفع من معنوياته بهدف تهييئ إعادة إدماجه.
- الفحص التجريبي: يرتكز هذا الفحص على ملاحظة سلوك المحكوم عليه أثناء تنفيذه للعقوبة السالبة للحرية، وما طرأ عليه من تغييرات سواء كانت إيجابية أو سلبية. ويقوم بهذا الفحص القائمون على أمور المؤسسة السجنية من حراس ومساعدين اجتماعيين وأخصائيين نفسيين… وينبغي لنجاح هذا الفحص أن يكون الاتصال مباشرا بين المحكوم عليه والمشرفين، وأن يتحدثوا إليه مباشرة لمعرفة ردود فعله. وعلى ضوء ذلك يمكن تغيير نمط المعاملة العقابية، بين الحين والآخر، و-أو- ترحيله من سجن إلى آخر أكثر ملاءمة، على أن يرسل معه ملفه المتضمن لحالته الجنائية والاجتماعية والصحية.
الفقرة الثانية: أجهزة الفحص
تعرف النظم العقابية ثلاثة أنواع من أجهزة الفحص منها نظام مكتب الفحص، حيث تقوم هيئة طبية ونفسية واجتماعية مستقلة بفحص المحكوم عليه، عن طريق إجراء اختبارات دقيقة وتحليل نفسي فردي، ثم تقترح برنامج المعاملة الملائمة له، وبذلك ينتهي عمل هذه الهيئة عند هذا الحد فمهمتها استشارية فقط، وهذا ما يجعل إدارة المؤسسة السجنية غير ملزمة بالأخذ باقتراحات هذه الهيئة، خاصة في حالة نقص إمكانيات المؤسسة السجنية في تطبيق أسلوب المعاملة المقترح.
وهكذا، فإن هذا النظام يتميز بعدم الواقعية، لأنه لا يلامس عن كثب إمكانيات المؤسسة السجنية، ومدى استعدادها لتطبيق أساليب المعاملة العقابية المقترحة.
هناك أيضا، نظام الفحص التكاملي، وهو عبارة عن لجنة تابعة للمؤسسة السجنية تضم عدد من الأخصائيين في المجال الطبي والنفسي والاجتماعي، بحيث تتولى هذه اللجنة فحص حالة كل واحد من السجناء، وإلحاقه بالجناح الخاص الملائم له، وإذا اتضح لها أن حالة السجين لا تلائم هذه المؤسسة يتم ترحيله للمؤسسة الملائمة له. ويمتاز هذا النظام عن سابقه في أن رأي اللجنة ليس استشاريا بل له قوة تنفيذية إذ تلتزم الإدارة بتطبيقه.
إضافة إلى أن اللقاء الذي يتم بين الأخصائيين والإداريين وتبادل وجهات النظر والمناقشات التي تثور حول تحديد البرامج، كل هذا يعد بمثابة تجربة علمية يستفيد منها جميع المشتركين، فالأخصائيين ينقصهم الالمام بمختلف الظروف الخاصة بالتنفيذ من الوجهة الإدارية، لذلك فإن المشاركة على الوجه السابق بين الأخصائيين والإداريين يجعل قراراتهم واقتراحاتهم أكثر واقعية، إذ تتم مراعاة الإمكانيات العملية للمؤسسة السجنية والمشاكل التي تصادف تنفيذ قراراتهم بهذا الشأن.
وأخيرا، هناك نظام الفحص المركزي، مؤداه وضع السجناء في مركز استقبال يضم عدد من الأخصائيين، فتجرى دراسة كاملة لكل محكوم عليه على حدة، حتى يمكن اختيار المؤسسة التي تلائم ظروفه وتحديد برامج المعاملة المناسبة له. وحينما يرحل المحكوم عليه إلى المؤسسات المعنية تواصل عملية التصنيف لجنة مختصة بذلك. وبالتالي، فإن هذا النظام يفترض وجود جهاز واحد كبير يمتد اختصاصه إلى المحكوم عليهم في الدولة بأسرها، حيث يقوم الأخصائيون في هذا المركز بفحص كل سجين وإرساله إلى المؤسسة السجنية الملائمة لحالته، مع رسم الخطوط العريضة لمعاملته العقابية التي تصلح لتأهيله، ويكون لقراراتهم صفة إلزامية، وتأخذ العديد من الدول بهذه الطريقة ومنها فرنسا حيث يحمل هذا الجهاز المركزي اسم “مركز التوجيه الوطني” الذي أنشئ سنة 1950، كما تأخذ إيطاليا واليابان بهذا النوع من التصنيف.
ولتفعيل مبدأ الفحص داخل السجون المغربية، أحدثت المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة لإدماج، مكتب الاستقبال والتوجيه، على مستوى كل مؤسسة سجنية، عهد إليه باستقبال السجناء الجدد وأخذ معلومات حول وضعيتهم الاجتماعية والجنائية وسوابقهم الإجرامية. ويقوم بإمدادهم بمعلومات حول بعض الحقوق والواجبات الأساسية داخل المؤسسة السجنية مع إنشائه لملف اجتماعي لكل سجين، يتم تضمينه سوابقه الجنائية وحالة العود وأسبابها ومعلومات عن وضعيته الاجتماعية، وملاحظات طبيب المؤسسة والأخصائي النفسي حول حالته الصحية والنفسية.
كما أن مكتب الاستقبال والتوجيه يقوم بمهام الوساطة بشأن النزاعات الواقعة بين المعتقلين والتي يمكن حلها دون اللجوء إلى العقوبات التأديبية، ويقوم بتبليغ الحالات التي تجد صعوبة في التأقلم مع الحياة السجنية، مع تقديمه للدعم النفسي والاجتماعي خلال فترة الامتحانات لفائدة السجناء المستفيدين من برامج التعليم ومحو الأمية والتكوين المهني والاهتمام بالحالات الاجتماعية الصعبة، وكذلك التواصل مع قاضي تطبيق العقوبات خلال زياراته للمؤسسة واطلاعه على الصعوبات المطروحة في شأن تدبير اعتقال بعض السجناء وعلى معيقات الإدماج.
كما أن المكتب يقوم باستقبال السجناء الذين اقترب موعد الإفراج عنهم، بقصد توجيههم وتقديم النصح ورصد حاجياتهم، والمساعدة على تنفيذ إفراجهم بالشكل المطلوب ورفع مقترحات في الموضوع عند الضرورة لمدير المؤسسة.
وهكذا، يمكن القول بأنه إذا كان المشرع المغربي قد جاء بمبدأ الفحص وتم تنظيمه من خلال المرسوم التطبيقي في القانون 23-98، وإحداث المندوبية العامة لإدارة السجون لمكتب الاستقبال والتوجيه، فإنه من الناحية العملية يصعب تفعيل هذا المبدأ وذلك راجع بالأساس لأمرين، أولا: لحداثة مكتب الاستقبال والتوجيه، وكذلك لعدم كفاية العناصر المكونة لهذا المكتب، خاصة الأخصائيين النفسانيين والمساعدين الاجتماعيين، وثانيا: لعدم وجود مؤسسات سجنية تتناسب وتفريد المعاملة العقابية، علما أن قرارات هذا المكتب لا تكون ملزمة لمدير المؤسسة السجنية لتطبيق المعاملة التي تليق بكل محكوم عليه، فآراؤه تبقى استشارية فقط.
المطلب الثاني: نظام التصنيف بالمؤسسات السجنية
يقصد بالتصنيف العقابي تقسيم المحكوم عليهم إلى طوائف متجانسة من حيث الظروف، ثم توزيعهم على المؤسسات العقابية، بهدف إخضاع أفراد كل طائفة للمعاملة العقابية الملائمة لتأهيلهم.
ويعتبر التصنيف كمرحلة لاحقة على الفحص من أهم الخطوات اللازمة لتحقيق أهداف السياسية العقابية، ذلك أن هذا التصنيف يحقق غرضا هاما ألا وهو عزل المحكوم عليهم الذين يخشى تأثيرهم الضار على غيرهم من المذنبين بسبب ماضيهم الإجرامي أو فساد أخلاقهم، فضلا عن تقسيمهم إلى فئات في ضوئها تحدد نوع المعاملة العقابية التي تناسب كل فئة.
الفقرة الأولى: معايير التصنيف العقابي
هناك عدة معايير يمكن الاستناد إليها من أجل تصنيف المحكوم عليهم عقابيا، وهي بالتحديد سبعة معايير نوجزها على النحو التالي:
1- السن
بحيث يتم تقسيم المحكوم عليهم إلى فئتين رئيستين هما: فئة الأحداث وفئة البالغين، فبداخل كل فئة يمكن التمييز بين مراحل سنية معنية، كأن يقسم البالغون إلى شباب وإلى شيوخ ناضجين، ويهدف هذا المعيار إلى تجنب الاختلاف السيء بين الشباب والأحداث أو بين الناضجين من الشيوخ وبين من هم أقل منهم سنا، باعتبار أن الشباب والأحداث أكثر استجابة لبرامج التأهيل والإصلاح.
2- الجنس
لا شك أن مقتضيات المعاملة العقابية السليمة توجب الفصل بين الرجال والنساء منعا لنشوء العلاقات الشاذة بينهما، مما يؤثر على سلوك المحكوم عليه وتجاوبه مع البرامج التأهيلية التقويمية. وإعمال هذا المعيار في التصنيف يقتضي إنشاء سجون خاصة تتفق مع تكوينهم الجسماني وقدرتهم على تحمل برامج الإصلاح والتقويم.
3- الماضي الإجرامي
وفقا لهذا المعيار يتم تصنيف المحكوم عليهم إلى طوائف متنوعة، فيكون منهم المجرمون المبتدؤون والمجرمون العائدون أو المعتادون على الإجرام، وذلك من أجل تجنب انتقال عدوى الجريمة من الطائفة الأشد خطورة إلى الطائفة الأقل. ولا شك أن هذا المعيار يراعي قابلية طائفة المبتدئين من المجرمين للتأهيل والإصلاح بشكل أسرع مما هو عليه الحال بشأن طائفة المعتادين على الجريمة، مما يوجب اخضاع هذه الطائفة الأخيرة لبرامج أشد قسوة وصرامة من الطائفة الأولى.
4- مدة العقوبة
بناء على هذا المعيار يتم تصنيف المحكوم عليهم إلى ثلاث طوائف: الأولى تضم المحكوم عليهم بعقوبة قصيرة المدة والتي لا تتعدى سنة على الأكثر، والثانية تضم فئة المحكوم عليهم بعقوبات متوسطة المدة التي لا تتجاوز ثلاث سنوات على الأكثر ولا تقل عن سنة، أما الطائفة الثالثة فتضم المحكوم عليهم بعقوبات طويلة المدة والتي تجاوز الثلاث سنوات. وعلة هذا التصنيف هو عدم الجمع بين المحكوم عليهم بعقوبة قصيرة المدة مع غيرهم من طوائف المحكوم عليهم، لما لهذا الجمع من أثر سيء ناشئ عن سهولة انتقال عدوى الجريمة من فئة إلى أخرى، كما أن فئة المحكوم عليهم بعقوبة قصيرة المدة عادة لا يخضعون لبرامج تأهيلية نظرا لقصر المدة، ويكتفى غالبا بعزلهم في أماكن خاصة داخل المؤسسة العقابية.
5- نوع الجريمة
في ضوء هذا المعيار يتم تقسيم المحكوم عليهم إلى طوائف متنوعة، كأن يفرق بين المحكوم عليهم في الجرائم العمدية والجرائم غير العمدية، أو يفرق بين المحكوم عليهم في جرائم الدم أو جرائم المخدرات، وبين المحكوم عليهم في الجرائم الأخرى، فكل نوع من تلك الأنواع مجرميها متفردي الشخصية.
فالمحكوم عليهم في جرائم الدم عادة ذوي طبيعة عدوانية وعدائية للمجتمع إذا ما قورنوا بغيرهم من المحكوم عليهم، مما يوجب إخضاعهم إلى معاملة عقابية تميل إلى الشدة والقسوة.
6- الحالة الصحية
على أساس هذا المعيار يتم تقسيم المحكوم عليهم إلى طائفة الأصحاء وطائفة المرضى، وداخل هذه الطائفة الأخيرة يتم التمييز بين المحكوم عليهم بحسب نوع المرض، وما إذا كان مرض عضوي أو مرض نفسي أو مرض عقلي. وعلة هذا التقسيم واضحة، حيث تتمثل في عدم انتشار العدوى بين النزلاء، بالإضافة إلى إخضاع المحكوم عليهم المصابين بأمراض معينة إلى معاملة عقابية يغلب عليها طابع العلاج.
7- حكم الإدانة
طبقا لهذا المعيار يتم الفصل بين المحكوم عليهم نهائيا بالإدانة وبين من صدر ضده فقط أمر بالاعتقال الاحتياطي، أومن يكون خاضعا لنظام الإكراه البدني تنفيذا للأحكام الصادرة بالغرامة عند عدم التنفيذ اختيارا أو بالطريق المدني (التنفيذ الجبري). فلا شك أن المحكوم عليهم نهائيا بالإدانة هم الذين يحتاجون إلى الخضوع إلى برامج التأهيل والإصلاح والتهذيب، أما طائفة المعتقلين احتياطيا فلم يثبت بعد إدانتهم ومن تم يستفيدون من قرينة البراءة لحين ثبوت إدانتهم، لذا وجب أن تفرد لهم معاملة خاصة لاحتمال براءتهم، أما طائفة الخاضعين للإكراه البدني فانهم لا يخضعون لسلب الحرية إلا لمدة قصيرة، ولأن نوازع الشر لم تتأصل بداخلهم، لذا ففي العادة لا يخضعون لبرامج تأهيلية اكتفاء باستنفاذ الغرض الذي من أجله سلبت حريتهم بعد قضاء مدة الإكراه البدني.
الفقرة الثانية: نظم التصنيف العقابي
للتنصيف العقابي أنظمة ثلاثة وهي:
1- نظام التنصيف الداخلي أو نظام مكتب التنصيف
يقوم نظام التنصيف الداخلي، المسمى أحيانا نظام مكتب التنصيف على أساس استقبال المحكوم عليهم داخل المؤسسة العقابية من قبل عدد من الأخصائيين والفنيين في النواحي المختلفة، من أجل فحص كل محكوم عليه على حدة. وفي ضوء هذا الفحص يتم إعداد تقرير عن حالة المحكوم عليهم كي يتم على أساسه تحديد نوع المعاملة العقابية الملائمة لكل محكوم عليه، وبهذا النظام أخذت بعض الولايات الأمريكية وكذلك الدانمارك.
ويعاب على نظام التصنيف الداخلي أنه غالبا ما يكون رأي الجهاز الذي يجري التصنيف استشاريا فقط بالنسبة للإدارة العقابية، لاعتماد الجهاز على أخصائيين فنيين بعيدين عن العمل الإداري العقابي، مما يجعل من تنفيذ توجيهاتهم أمرا صعب التحقق من الناحية العملية.
2- نظام التصنيف الإقليمي
يقوم هذا النظام على تقسيم إقليم الدولة إلى عدة مناطق، يكون بكل إقليم مؤسسة عقابية أو أكثر ويوجد بداخل كل مؤسسة جهاز يتولى تصنيف المحكوم عليهم الداخلين في اختصاصه الاقليمي، ويأخذ بهذا النظام عدد قليل من الدول منها السويد ونيوزيلاند.
ويعاب على هذا النظام أنه قد لا يؤدي إلى توحيد المعايير الخاصة بتنصيف المحكوم عليهم، كما أن آراء الأجهزة الموجودة بالمؤسسات دائما استشارية بالنسبة للإدارة العقابية.
3- نظام التصنيف المركزي
يقوم هذا النظام على أساس مبدأ وحدة جهاز التنصيف العقابي، بمعنى وجود جهاز تصنيف واحد يختص بكافة المحكوم عليهم من كافة الجوانب البيولوجية والنفسية والاجتماعية على كل إقليم الدولة، وكذلك وضع برامج المعاملة العقابية الملائمة لكل محكوم عليه. وتكون لقرارات وتوجيهات هذا الجهاز القوة الملزمة من قبل القائمين على الإدارة العقابية، وقد أخذت بهذا النظام دول أخرى كاليابان وإيطاليا.
خاتمة
تشتمل المؤسسة السجنية على أطراف عدة شأن سائر المؤسسات الاجتماعية الأخرى وتسود هذه الأطراف علاقات وتفاعلات فيما بينها، حيث ترى فئة الحراسة أن وظيفتها الأساسية هي الحراسة واستتباب الأمن داخل المؤسسة، وترى في هذه الوظيفة أنها أهم وظيفة على الإطلاق وأن وجود المختصين وأصحاب الكفاءات عائق يحول دون قيامها بوظيفتها على أكمل وجه، والمتمثلة في الحرص على عدم هروب النزلاء، بغض النظر عن مهام المشرفين والمؤهلين الاجتماعيين الذين يرون في الحراس الإداريين عقبة تقف دون إتمام مهامهم أو حتى القيام بها، والتي تتمثل في التأهيل والإصلاح والتقويم والتهذيب، لأنه هو الهدف الأساسي للمؤسسة السجنية. وبالتالي، فإن تطبيق القواعد الأمنية يجب أن يتسم بنوع من الذكاء والتمييز من طرف الموظف لتحقيق التلاؤم المطلوب بين القرارات والإجراءات المتدخلة من جهة، وخصوصيات المواقف والنزلاء من جهة ثانية، ومن تم يتوجب عدم تشديد الأمن والمراقبة إلا اتجاه الفئة الخطيرة التي تشكل تهديدا صريحا لأمن المؤسسة السجنية وسلامة نزلائها.
إن الإفراط في الأمن يجعله هاجسا ضاغطا وكابوسا يسيطر على الأذهان ويدفع العاملين بالسجون إلى المبالغة في اتخاذ الاحتياطات الأمنية، ويؤدي ذلك إلى التضحية بالأهداف الإصلاحية في سبيل الأمن مخافة تعرضهم للمساءلة التأديبية، أو المتابعة القضائية، وما يدعم هذا الاختيار أكثر كون القانون بدوره يحاسب موظف السجن ويتابعه دون رحمة في حالة أدنى تقصير في وظيفته الأمنية، ولا يبالي بتقصيره إزاء وظيفته الاصلاحية، إن موظف السجن يتعلم شيئا فشيئا أن انتحار عشرة سجناء أفضل له بكثير من فرار سجين واحد.
فمهما تطورت السجون على مستوى قوانينها التنظيمية ووظائفها وإمكانياتها وأساليب عملها يظل الجانب الأمني يشكل هاجسها الرئيسي في آخر المطاف، وهذا لأن منع السجين من الخروج أمر يتطلبه الأمن وبشتى الوسائل ومنها القوة واستعمال السلاح، ومن تم تظل السجون مؤسسات أمنية بالأساس قبل أن تكون إصلاحية، فرغم أن موظف السجن مطالب بالمساهمة من جانبه في صيرورة إعادة إدماج النزلاء إلا أنه في نفس الوقت نجده مطالبا بتطبيق جميع الضوابط الأمنية بشأنهم ومراقبتهم، دون إقامة علاقات معهم خارج الإطار الضيق لواجباته، وينتج عن ذلك تناقض بين الغايات والوسائل، وبالتالي فإن السجون لا يمكنها تحقيق وظائفها والنهوض بأعبائها إلا عن طريق سد الفجوة بين الجانب الأمني والجانب الاصلاحي.
تأسيسا على ما سبق، يمكن القول بأن مظاهر التفريد التنفيذي للعقوبة السالبة للحرية المعتمدة حاليا بالمغرب هي بعيدة عن أهداف السياسية الجنائية الحديثة، لأنها تركز على الجانب الأمني عوض الجانب الإصلاحي، وسندنا في ذلك أن القانون المنظم للسجون ومرسومه التطبيقي، عندما يتحدث عن إدماج السجناء يستعمل مصطلح “يمكن” مما يجعل مسألة الجانب التأهيلي للسجناء مسألة ثانوية في عمل المؤسسات السجنية بالمغرب، على العكس من ذلك، عندما يتحدث المشرع عن الجانب الأمني فإنه يستعمل كلمة “يجب” مما يوحي بأن أي تقصير سوف يعرض صاحبه للمساءلة الإدارية والقضائية، على عكس التقصير في الجانب التأهيلي، مما يجعل السجون مؤسسات لإعادة إنتاج الجنوح.
لائحة المراجع
- مراجع باللغة العربية
– أحسن طالب، الجريمة والعقوبة والمؤسسات الإصلاحية، مطبعة دار الطليعة للطباعة والنشر، لبنان، ط 1، 2002.
– أحمد أبو خطوة، أصول علمي الإجرام والعقاب، ط 2، سنة 1988.
– أحمد مفتاح البقالي، مؤسسة السجون في المغرب، مطبعة الرباط المغرب، د، ط، 1979.
– اسحاق ابراهيم منصور، موجز علم الاجرام وعلم العقاب، مطبعة ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، د، ط، 1982.
– عمار عباس الحسني، الردع الخاص العقابي ونظم المعاملة الإصلاحية، منشورات الحلبي الحقوقية، د، ط، 2013.
– فهد يوسف سليم الكساسبة، أثر وظيفة العقوبة في إصلاح الجاني وتأهيله، دراسة مقارنة، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في القانون، تخصص قانون عام، جامعة عمان العربية، كلية الدراسات القانونية والسياسية العليا، 2009/2008.
– فوزية عبد الستار، مبادئ علم الإجرام وعلم العقاب، دار مصر للنشر والتوزيع، ط 4، 2022.
– فوزية عبد الستار، علم الاجرام وعلم العقاب، مطبعة دار النهضة العربية القاهرة، ط 5، 1987.
– محمد سعيد نمور، فقه القانون الجنائي، مطبعة دار الثقافة للنشر والتوزيع، د، ط، 2004.
– محمد عبد الله الوريكات، مبادئ علم العقاب، مطبعة دار وائل للنشر، ط 1، 2009.
– محمود حسين نجيب، علم الإجرام وعلم العقاب، مطبعة دار النهضة العربية القاهرة، د، ط، 1977.
– مريد يوسف الكلاب، الوسيط في علم العقاب، القاهرة، المركز القومي للإصدارات القانونية، ط 1، 2018.
– نسرين عبد الحميد نبيه، السجون في ميزان العدالة والقانون، مطبعة دار النشر القدس، د، ط، 2008.
– يسر أنور علي وأمال عثمان، علم الإجرام وعلم العقاب، مطبعة دار النهضة العربية القاهرة، د، ط، 1970.
– هشام علالي، التفريد التنفيذي للعقوبة السالبة للحرية بين القانون والواقع، مجلة القضاء الجنائي، ع الخامس / السادس، السنة الثالثة شتاء/ خريف 2017.
- مراجع باللغة الفرنسية
– Ahmed Othmani, Sophie Bessis, Sortir de la prison, un combat pour réformer les systèmes carcéraux dans le monde, éditeur la découverte 2002.
– Dominique vernier, Peines perdus « faut-il supprimer les prisons », Editeur Foyard 2002.
– Jean Favard, les prisons, Flammarion France dominos, Edition 1994.
– Philippe Combessie, Sociologie de la prison, Paris la Découverte coll Edition 2001.
– Stefani (GASTON) Levasseur (George) et R. Janteu : Criminologie et sciences Pénitentiaires, Dalloz édition, 1970.
تعليقات 0