الرسول بلّغ الرسالة فانفردت بالتحريم..والنبيّ شرّع للحلال بالإجازة والمنع ولم يحرّم قيد شعرة!!

أستطيع أن أقدم الرقم 95%، كنسبة للمسلمين المؤمنين الذين يخلطون، من جرّاء جهلهم، وبصورة تلقائية، بين “الرسالة” و”النبوّة”، وبالتالي بين “الرسول” و”النبي”، وقد تطرقتُ لهذه الظاهرة في مقال سابق.  أمّا عِلّةُ وجود هذا الخلط فلأنّ هذيْن المَقامَيْن يجتمعان معاً في رجل واحد، هو محمد بن عبد الله عليه أزكى السلام!!

وحبّذا لو أنّ هذا الخلط كان منحصراً في بُسطاء هذه الأمة، إذ لو كان الأمر كذلك لكان أيسرَ وأهْوَن، بل نجده متفشّياً بين صفوف فقهائها وأعلامها، الحامل بعضُهم ظلما وعدواناً لشهادات جامعية عُليا ولألقابِ شامخة من قَبِيل “الدكاترة” و”الفقهاء” و”المشايخ” و”الأساتذة” و”العلماء” يبدو والحالة هذه أن ذلك البعض لا يستحقها بأيِّ صورةٍ من الصُّوَر!! 

إنه لَيكفي، للدلالة على ذلك، أن نشاهد ونسمع شيخاً متحدثاً باسم رئيس الأزهر “الشريف”، وكم تمنيت ألاّ أعود إلى الحديث عن هذا الشاب بالذات، ولا إلى ذكره مرة أخرى بالاسم، وإن كنتُ مضطراً في مقالين سابقين إلى ذكر اسمه حتى يتوقف بعض المتابعين لهرطقاته عن الانخداع بشكله، وبصوته، وبطريقته المتصنَّعة في الحديث… كنت أقول إنه يكفي أن نسمع هذا الفتى وهو يقول بعظمة لسانه إن الله، بالدليل القرآني، أمرنا بطاعة “النبي”، وإن “النبي”، بالدليل القرآني أيضاً، لا ينطق عن الهوى، وإن “النبي” كذلك معصوم قرآنياً من الخطأ… وكلام آخر من هذا القَبيل، دون أن يستوعب ذلك الفتى أنه سقط في خطأ شديد الفظاعة، من حيث كونُه يُضِل البسطاء المُحَوِّمين حول مَجالسه والمتابعين لتخاريفه، وذلك لأنه ينسب للنبي ما هو للرسول حصرياً، ويوجب لشخص النبي ما لا يجوز له بالبرهان القرآني، وهما “العصمة” و”الطاعة”… والقرآن، لو كان هذا “الفتى/الشيخ” يقرأه حق قراءته، لَجعله يتيقن أن الله سبحانه لم يأمرنا مطلقاً بطاعة النبي، ولو في آية واحدة، ولا ذكَرَ لنا شيئا عن عصمة النبي، ولو في جزءٍ من آية، وأنه سبحانه بخلاف ذلك، ألزم نفسه بعصمة الرسول في قوله عز وجل: “يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ” (المائدة – 67)، وقد تطرقتُ لهذه الآية في مقال سابق وضّحتُ فيه أن العصمة واجبة للرسول، فقط لا غير، لكي يُبلِّغَ الرسالةَ بحذافيرها بلا نقص أو سهو أو نحوهما، وقد زاد في تأكيد هذه الحقيقة قولُ رب العزة لرسوله: “سنُقرئك فلا تنسى” (الأعلى- 6)!!

أما مقام النبوة، فقد تخللته أخطاء بشرية كان الوحي يُصحّحها في حينها حتى لا تتكرر، كقول الحق جل وعلا في بداية سورة التحريم: “يا أيها النبي لِمَ تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاةَ أزواجك والله غفور رحيم” (التحريم – 1)، وقوله “إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ” (الفتح – 1و2)… وآيات أخرى تُصحّح وتُصوّب أو تُعاتِب ثمّ تَغفِر، وقاسِمُها المشتركُ أنها لم تُخاطب “الرسول” مطلقاً، بل توجهت بالخطاب إلى “النبي”، وهذا مما لا يجوز غيابُه عن شخص وقع عليه اختيار أعلام الأزهر ليتحدث باسمهم في مُختلِفِ المحافل، والندوات، والقنوات التلفزية، وفي وسائل التواصل الاجتماعي… والحال أنّ هذا في حد ذاته ليس غريباً، إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار مقولاتٌ لرئيس الأزهر، بنفسه وبقدّه وقديده، تؤكد بأنه هو ذاته لم يقرأ القرآن إلاّ لجمع الحسنات، أو للترحم على الأموات، أو لأي غرض آخر غير التفكّر والتدبر والإذعان والاعتبار، لأنه بعظمة لسانه، كما سبق القول في مقالَيْن سابقَيْن، يعتبر الروايات التي يُسميها “سُنّةً نبويةً” ثلاثةَ أرباع الدين والقرآن رُبعَهُ الباقي، ويقول بعظمة لسانه أيضا: “إن السُّنّة إذا ذهبت فإن الدين سينهدم”، و”إن القرآن لا يَسُدَّ حاجةَ المؤمن إذا غابت السُّنّة”… فكيف ننتظر من فتى يتحدث باسم هذا “الشيخ الأكبر” أن يقول خيراً من تلقاء نفسه، بينما ذلك الغصن من تلك الشجرة؟!!

ونعود إلى رسولنا ونبينا، الصادق الأمين، لنؤكد أنه بالبرهان القرآني بلّغ الرسالة، بوصفه رسولاً دون أدنى نقص أو زيادة أو تغيير أو تحريف، فأدّى الأمانةَ خير الأداء، وكان مُبلِّغاً ما أوحِيَ أليه كما أمره ربُّه…  وأنه بخلاف ذلك، وموازاةً معه، حمل مشعل تأسيس دولة الإسلام الأولى في مَوطنه بوصفه نبياً، فشرّع ليس للدين لأن التشريع الديني هو ما كان يُبلّغه فقط عن ربه، وفيه الوصايا العشر الواردة في سورة الأنعام، وهي بمثابة الصراط المستقيم بالبرهان القرآني أيضاً: “وإنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتَفرّق بكم عن سبيله” (الأنعام – 153)، وفيه كذلك آيات التحريم التي سبقت هذا البيان القرآني عن الصراط، والتي تُعلّمُنا من خلال صيغتها الواضحة والصريحة “قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم…” (الأنعام – 151 و152) بنفس السورة، أن التحريم صلاحيةٌ ربّانيةٌ لا يشترك فيها مع رب العالمين أحدٌ من خلقه ولو كان نبيا رسولا!!

وبهذا، كان النبي يٌنظّم دولتَه ومجتمعَه بتقنين الحلال والمُباح حتى لا يطالهما الشططُ والعَسَفُ وظلمُ الغير، فمارس “الإجازة” و”المنع” في هذا النطاق المحدد، ولم يتعدَّ حدوده كما فعل فقهاء السلف والخلف، الذين وجدوا في القرآن أربعة عشر أو خمسة عشر من المحرّمات، فجعلوها بظلمهم وجهلهم تُحصَى بالمئات، وقال البعض بالآلاف، فمارسوا بذلك شِركاً بَوَاحاً مع الله، ومَن أظلم مِمّن كتب بيده حُكماً ثم نسبه للحق جل وعلا، وهو يعلم أنه بذلك كذّابٌ ومفترٍ، حتى إذا راجعناه في ذلك ركب رأسه، وأخذته العزة بالإثم، لأن الشيطان ممسك بتلابيبه وآخذٌ بناصيته إلى جُبٍّ من الضلالة ليس له قرار… قال تعالى: “وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (النحل – 116 و117)!!

 إنّ مصيبتَنا والحالةُ هذه، أنّ آلافاً بل ملايينَ من البسطاء يتّبعون أضاليلَ أمثالِ هذه الفصيلة من الشيوخ والكهنة متخذين منهم القدوة والأسوة الحسنة، اللتان كان الأَوْلَى بهما والأحق والأجدر رسولُ الله ولا أحدَ من المسلمين المؤمنين دُونَه!!

ونعود مرة أخرى لنؤكّد، ودليلُنا هو القرآن ولا مَصدرَ آخرَ غيرَه، أنّ الرسول أدّى الأمانة بتبليغه رسالةَ ربه، إذ “لم يكن عليه إلا البلاغ”؛ وأن النبيَّ، ولو أنّه الشخصُ ذاتُه، نظّم دولتَه ومجتمعَه وقنّن للحلال والمباح كما تفعل الأنظمة الحاكمة والسلطات التشريعية في كل دول المعمور، وفي كل العصور، دون أن يجرُؤَ على تحريم ما لم يحرّمْه الله، ولا على تَحِلَّةِ ما لم يُحِلَّهُ الله، وقد كان في ذلك بمثابة القدوةِ والأسوةِ الحسنة دون غيره… لو كان شيوخُ وفقهاءُ السلَف والخلَف يعلمون!!! 

      بقلم الأستاذ عبد الحميد اليوسفي