إسفاف “الشيوخ” و”الفقهاء” و”العلماء”… متى ينتهي؟!!

 لم يكن لديّ أدنى تدبير مُسْبَق لكتابة هذا التعقيب، على أناس يسمّون أنفسهم ويسمّيهم حَوارِيُوهُم “شيوخاً” و”فقهاء”، بل وأيضاً “علماء”، ولا أرى لهم شخصياً أيَّ علاقة بأيِّ فقه أو مشيخة، ولا بأيِّ علم… أقول أيّ علم… لماذا؟ لأن العالم من أكثر صفاته بداهةً أنه يشك ويرتاب بدايةً في أي شيء، أو أيّ ظاهرة، ثم يبدأ في طرح أسئلته البسيطة، فالمعقدة، فالأكثر تعقيداً، ثم يضع خطاطات بَحثِه وكَدِّهِ العِلميَّيْن، ثم يشرع في تنفيذها، الواحدة تلو الأخرى تِباعاً فيضع فرضيات، ثم يصوغ نظريات يسعى لإثبات صحتها وإلا سعى إلى تغييرها بأحسن منها… والأهم من كل هذا، أنه لا يجرؤ على تَوَقُّع الأجوبة وهو بَعد في طريق البحث عنها، حتى لا ينتهي إلى ما يتوقعه هو، ويريده هو، لا إلى ما يسوقه إليه بحثه العلمي، الذي من خصائصه ومميزاته أنه يكون دائما وأبداً مجهول النهايات والنتائج والعواقب.

هذا هو العالِم بالمفهوم الإبستيمولوجي للاصطلاح، وليس بالفهم الكاريكاتوري الذي انتج لنا تراثا يعج بالعلماء، والفقهاء، وإن هم جميعاً إلاّ حُفّاظٌ، ونَقّالون، ومُقلّدون، يَصعَد أغلبهم فوق سواعد معلّميهم وسابقيهم، وحتى سواعد تلاميذهم النجباء، دون الإتيان بأي قيمة مضافة إلى ما بين أيديهم، مما يسمّونه “علماً” بالمفرد، الذي يفيد الشمولية،أو “علوما” بالجمع، الذي يفيد الإحاطةَ والسِّعَةَ وتَعدُّدَ المعارف وتَنَوُّعَها…

لذلك ترك لنا السلف “علماء” أنتجوا مؤلفات منسوخة عن بعضها، شمالُها يشبه إلى حد التطابق جنوبَها، وشرقُها كغَربِها، حتى أن بعضها نقل كل ما تركه السابقون حرفياً، وبحذافيره… ومَن شك في هذا فليبحث في مؤلفات علماء السلف ولْينظُرْ في مُتشابِهِ تَرِكاتِهم “العلمية” وتَماثُلِها وتَطابُقِها… والمصيبة أن ما طرقوه من الموضوعات بَعضُه أو جُلُّه يندى له الجبين!! 

مثال ذلك: مجلدات سميكة في نواقض الوضوء، والوضوء لم يأت ذكره مطلقا في المصدر الديني الأساس، القرآن الحكيم، بل جاء ذكرُ الغسل والمسح، كما أنه لم يذكر الأقدام بل ذكر الأرجل، وعلماؤنا ربطوا وضوءهم بأقدامهم… وهذا مثال كاف رغم انفراده ليدلنا على التيه الذي وقع فيه “علماؤنا”، فأوقعوا فيه ملايينَ من البسطاء، من قليلي الحيلة، ومن الذين دأبوا على استهلاك كل ما يأتي به إليهم أناسٌ مبجّلون ومقدَّسون لأنهم، فقط لا غير، “علماء الأمة” و”فقهاؤها”… ولذلك فبمجرد ما يبدو منك أدنى ميل إلى مراجعة ذلك، أو إعادة قراءته، تُرفع في وجهك سيوف ما أنزل الله بها من سلطان: “التخصص”؛ و”العلمية”؛ و”التفقه”؛ و”حفظ” كل ما تركه الأولون والآخِرون، فضلا عن “وجوب الانتماء للمذهب” أو “الفرقة” التي تكون حصراً هي الناجية من بين كل المذاهب والفرق… وحَدِّثُوا في هذا الضرب من العَبَث ولا حَرَج!!

دافعي إلى تذكّر عَبَث “شيوخ” و”فقهاء” و”علماء” هذه الأمة البئيسة هؤلاء، وما أكثرهم، ومعظمهم في الهم سواء، أنني كنت أتابع محاضرة شيقة لأحد المتنورين الذين يدّعون تدبُّر النص المنزل بغرض تجديد فهمه، وتطوير قواعد التعامل معه، والحال أن بعضهم محق في أخذه بهذا الضرب من الأسباب… 

كنت أقول، بينما كنت أتتبع باهتمام بالغ محاضرة في غاية الأهمية لأحد المتنورين، تتناول موضوع المصطلحات وضرورة ضبطها والاتفاق حول دلالاتها قبل الخوض في أي حوار أو مناظرة، حتى لا يتحوّل النقاش إلى حوار للصُّمّ، أو إلى فرقعات أخشاب يُضرَب بعضها ببعض، إذا بإعلان لأحد فقهاء هذا العصر الملتبس يحيل المشاهد على ما سماه صاحبه “ردّا مُفحِماً على أضاليل فلان”.. وسمّى نفس المُحاضِر المذكور باسمه، دون أدنى اعتبار لأي شرط من شروط احترام الحياة الشخصية للناس، أيِّ ناس، وكلِّ الناس، ودون التفاتٍ لما يشكّله ذلك من مساس بالشخص الذاتي، الذي من الطبيعي أن يكون ربَّ أسرة، وأباً لأطفال أو أبناء يمكن أن يلحقهم الضرر المعنوي بمجرد تعيير والدهم أو أبيهم وتبخيس شخصه أمام الملأ!!

 غير أن الأدهى من كل ذلك، أنني بمجرد ما انتهيتُ من تتبع محاضرة ذلك التنويري، حوّلتٌ شاشة هاتفي رأسا إلى رد الفقيه صاحب اللحية والعمامة، وأعتقد أنه مغربي الجنسية، لأن لكنته تدل على ذلك، فماذا وجدتُ؟!

لم يكن الرجل في “رده المفحم” يناقش صاحبنا السابق ذكره، أو يناقش أفكاره وطروحاته، أو يرد عليها “مُفْحِماً” كما ادعى في عنوان حلقته “اللاتواصلية”، بل دخل رأسا في أسئلة من العيب الكبير والخطير أن تصدر عن “فقيه”، من الطبيعي أن له أتباعاً ومتتبعين بالآلاف أو عشرات الآلاف أو أكثر… فكان من بين أسئلته “المُفْحِمة”: هل ذلك المتنوّر (سمّاه باسمه الكامل) يصلي؟ وإذا كان يصلي، فهل يؤدي الفجر في وقته؟ وكذلك كل الصلوات اليومية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يؤديها في الجماعة كما هو مأمور به أم يؤديها خفية داخل بيته؟.. وأسئلة أخرى من نفس القَبيل لا علاقة للسائل ونحن معه بإجاباتها، لأنها من خصوصيات الرجل وحميمياته، ومن مَكامن ومَظاهر صلته بربه، والتي لا حق لأي كائن من بني آدم أن يتدخل فيها، أو حتى أن يتطلع إلى معرفتها، فبالأحرى أن يتخذها موضوعا لأسئلة فاضحة، تُلقى أمام الملأ من المشاهدين والمتابعين، لأن هذا الفقيه المُلَسَّن بكل بساطة لا يقصد إلى مناظرة الرجل، أو محاورته، لأزه عاجز عن ذلك، وإنما كان يسعى إلى المساس بشخصه، والتشهير به في مجتمع لا يزال لسوء الحظ، وللأسف الشديد، يحكم على الناس بمقياس المظاهر، وبمعايير ما أنزل الله بها من سلطان، ليتأكّد بالملموس أن الشيطان قد أتقن عمله، وأوفى بعهده ووعده، حين اختار ممارسة الغواية على مستوى “صدور الناس”، وصدور الناس في الدلالة القرآنية هم متصدّروهم من الوجهاء والعلماء والفقهاء، أو ممّن نُسَمّيهم في عصرنا اختزالاً بالنخبة، على اعتبار هذا “الفقيه” على سبيل التجاوُز منتمياً لأيِّ نخبة من النُّخَب!!

ذكَّرَني سلوك هذا “الشيخ” بممارسات أجهزة الأمن والمخابرات في الأنظمة الشمولية، عندما كانت لا تجد ما تواجه به أفكار ومقولات معارضيها فتبحث في ملفات أحوالهم الشخصية: هل يؤدون الضرائب؟ هل لديهم حسابات مصرفية يمكن تجميدها أو التلاعب بها؟ هل صدرت أحكام ضدهم يمكن التسريع في تنفيذها، هل لديهم أبناء في المعاهد والجامعات يمكن ترسيبهم وتعطيل مستقبلهم بطريقة من الطرق؟.. وأسئلة أخرى من الطينة ذاتها، بدلاً من الرد على المعارضين بوسائل الإعلام الرسمية ودحض مقولاتهم، أو البحث في وسائل تصحيح الأوضاع بغرض جعلها خادمة لمصالح أغلبية المواطنين، وبذلك يتسنى لها إسكاتهم نهائياً أو إلى حين…

السؤال الذي يطرح الآن نفسه أمام ذلك “الفقيه” الأبله: “ما الذي سيغيّر شيئاً، مما طرحه ذلك المتنوّر من الأفكار والمقولات، إذا كان يصلي أو لا يصلي؟ أو إذا كان يؤدي صلواته اليومية جماعةً أو على انفراد؟ أو إذا كان يصلي “أداءً” في المواقيت المعلومة، أو “قضاءً” خارج تلك المواقيت؟!!

للإشارة، فقد وجدتُني مضطراً إلى الدخول إلى قناة “الشيخ الفقيه” بتعقيب ضافٍ حمّلته الأفكار المعبر عنها أعلاه، فكانت ردة فعله أنه أسرع في التبليغ عن تعقيبي فأدى ذلك إلى محوه في لمحٍ من البصر!!

 متى ينتهي هؤلاء الأدعياء من هذا الإسفاف؟!!

     بقلم الأستاذ عبد الحميد  اليوسفي