… ومتى تنتهي هذه الخديعة المؤبَّدة؟!!

خدعنا السلف عندما فسروا آيات الذكر الحكيم حسب هواهم، بناءً على روايات إسرائيلية تسللت على أيديهم كالخميرة إلى عَجائِنِنا الفكرية (الطبري في التفسير والتاريخ كمثالٍ صارخ)، وبناءً على مرجعيات علمية تكاد تكون منعدمة، لأن العلوم في عهودهم كانت خارج دنيا العرب، فقدم لنا أَعاجِمُهُم تفاسيرَ مُعظمُها يَضحك منه اليوم أطفال صغار صار في وسعهم، بواسطة هَواتِفَ ذكيةٍ، أن يَلِجوا إلى أدقّ المعلومات، في أعمق دهاليز الجامعات والكليات والمعاهد، ومراكز البحث العلمي الحقيقي، الخاضع لمعايير الإبستيمولوجيا، التي لا تُسَمِّي العلم “علماً” إلا بعد التأكد، مخبرياً وميدانياً ونظرياً وتطبيقياً وإحصائياً، مِن استيفائه لكل شروط “العلمية” بلا أدنى نقصان!..

خدعونا عندما قالوا إن المرأة خلقها الله في الجنة من ضلع أعوج، من بين ضلوع آدم، والقرآن يقول لآدم: “وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ” (البقرة 35)، بما يفيد أن خلق زوج آدم كان قبل دخول الجنة، وهذه بالمناسبة “بستان أرضي” أَدخَلَ ربُّ العزة إليه المجموعة الآدمية الأولى، المتشكّلة من الذكور والإناث، أي من النوع الآدمي وزوجه، بعد نفخة الروح التي جعلته عاقلاً واعياً مُفكّرا ومكلَّفاً، ليجتاز هناك “اختبار الطاعة والمعصية” بعد أن صارت لديه صلاحية الاختيار !..

وخدعونا عندما اتخذوا هذا التفسير، المبني على ذلك الضلع الآدمي الأعوج، دلالةً على احتقار رب العزة للمرأة فتأسّوا بذلك ليحتقروها بالتنظير والتطبيق، وليجعلوها في قائمة متاعهم الدنيوي، وزكّوا قسمتهم الضيزى هذه، بتفسيرهم الباطل للآية المتطرقة للشهوة والزينة والمتاع (“زين للناس حب الشهوات من النساء…” الآية 14 آل عمران) بكونها دليلا قرآنياً على أن المرأة شهوة وزينة ومتاع دنيوي، وهذا تفسير باطل ومُغرِض ومُسيء للعدل الرباني، فاحتقروا الزوجة، والأم، والإبنة، والأخت، والعمة، والخالة… واحتقروا بتحصيل الحاصل الجارة، وزميلة العمل، ورفيقة الطريق، والصديقة… واحتقروا رئيسة المرفق، والمفكرة، والكاتبة الأديبة، والمؤرخة، والمديرة، والوزيرة، ورئيسة الحكومة، ورئيسة الدولة… وجاءوا لتزكية هذه الأحكام القيمية المبنية على التمييز النوعي بروايات كاذبة “تَلعَن قوما ولَّوْا على أمورهم امرأة”… في مختلف مجالات التعامل الإنساني!!

وخدعونا عندما فسّروا بدايات سورة النجم، بأن جعلوا للرسول عُروجاً إلى السماء، وهذا العروج في أصله منقول عن أساطير زرادشتية، وهندية، وإغريقية، وإسرائيلية، ونصرانية، وَرَدَ في كل منها ذكرٌ لنبي أو صِدِّيق أو مَلِك عُرِج به إلى السماوات العُلا، فالتقى رب العزة في السماء السابعة… وجعلوا الرسول في ذلك المستوى الوجودي يقابل الحق جل وعلى (سبحانه وتعالى عما يصف هؤلاء المفسرون الرعاع) فيتفاوض معه، كما يتفاوض الزبون مع صاحب سلعة، ليُنقِص له من عدد صلواتٍ خمسينَ لا يعلم إلا الله من أين أتوا بها، وليُخَفِّضَها له إلى خمس وعشرين، ثم إلى عشر، ثم إلى خمسٍ كما جاء في تفاسيرهم المضحكة من فرط بلاهتها، المبكية من شدة تطاولها على الذات العلية المنزهة عن الزمان والمكان وعن المخاطبة المباشرة، “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ” (الشورى 51)…

وخدعونا وهم يضعون للإسلام خمسة أركان من بعد فهمهم القاصر لمراد الله في دينه، هُنّ مجرد عبادات وشعائر ومناسك بعيدة كل البعد عن مقاصد الإسلام الربّانية، وهي الإيمان بالله؛ واليوم الآخر؛ والعمل الصالح (“الدين المعاملة”).

وخدعونا عندما قالوا بالناسخ والمنسوخ داخل النص القرآني، فطبّقوا على كلمات الله وأحكامه الثابتة عينَ ما يطبقونه على مقولات البشر وأحكامهم الظنية والمتغيِّرة ثم الزائلة… ولم يكفهم ذلك فجعلوا روايات آبائهم وسلفهم المنسوبة ظلما وعدوانا للنبي الصادق الأمين تُلغي أحكاماً إلهية… ولو بُعث الرسول الكريم لتبرّأ منهم، وهو القائل بلسان الحق في كتابه الحكيم: “وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا” (الفرقان 30) فأكد بذلك أن هؤلاء هجروا كتاب الله واتخذوا في محله كتباً وروايات وخرافات ما أنزل الله بها من سلطان!!

وخدعونا عندما ألغوا أحكامَ نحوِ مائةٍ وعشرين آيةً قرآنيةً تدعو إلى العفو والتسامح والتساكن والقبول بالتعددية والاختلاف، والقبول بالآخر، ومَحَوْا مضامينَها بما سَمّوه “آية السيف”، الداعية إلى مقاتلة المشركين أينما كانوا وأينما تُقِفوا، ولم يَدُر بخلدهم أن تفسيرهم لهذه الآية كان سطحيا، وبالتالي باطلا، بدليل سريان حكمها في كل بقاع العالم، لأن كل دول وشعوب العالم تُحارب وتقاتل المشركين أينما حلوا وارتحلوا، لأن لفظ “المشركين” في القرآن الحكيم إشارةٌ إلى من نسمّيهم في ثقافتنا الحداثية “إرهابيين”، لأنهم يسعون إلى فرض مفاهيممم الأُحادية على الناس أجمعين، ويتخذون دينَ الله وتعاليمَه غطاءً، فأشركوا بذلك بالله عن علم أو عن غير علم، وصار قِتالُهم فرضَ عينٍ على كل من استطاع سبيلا إلى تشتيت شملهم والقضاء عليهم، لأنهم مجرد شياطين يتخذون من دين الله جبّة ورداءً يُنفّذون من ورائهما أجنداتهم الفاضحة!!

وخدعنا أولئك السلف النابغون في “لغات المعاجم البشرية” لكن، الجاهلون لمعاني ودلالات ومقاصد “اللسان العربي المبين” الذي أُنزِل به القرآن الحكيم، على قلب الرسول الكريم، فجعلوا للقطع معنى البتر، فبتروا أيدي السُّرّاق ظلماً وبغياً، وجعلوا “للرجم” معنى “الإعدام رميا بالحجارة” فقتلوا الزناة بغير حق، بينما الله جعل حدَّ السرقة قطعُ دابِرِها، وحدَّ الزنا الجَلدُ والفضحُ أمام الملأ، لأن حدود الله تربوية إصلاحية، وحدودَهم إجرامية إقصائية!!

ثم خدعونا حين سَمَّوْا أفراد الأمة المحمدية “مسلمين” دون غيرهم من أقوام وأتباع الرسل والأنبياء، المسلمين من قبل، بل زادوا على ذلك ففرّقوا دينهم وصاروا شِيَعاً كما فعل المشركون بالدليل القرآني، فكانوا بفعلهم ذاك مشركين بمعيار هذا الكتاب الحكيم (الروم 31 و32)!!

وما زلنا نعاني من خديعاتهم إلى غاية زمان الله هذا، وما زال خَلَفُهم الضائع وحَواريوه يَخطُبون في منابرنا بنفس الإصرار على الإضلال، لأن الشيطان تمكّن من صدورهم، وأوقعهم في شِباكه العنكبوتي المُحكَم، ولفّ حول فكرهم وفهمهم حَبائِلَه، وأغرق طلائعَهم ونُخَبَهم في بِرَك غِواياتِه، وجعل منهم مجرد عِبايات وطَرْحات وعِمامات ولِحَى، لا تسكنها سوى أشباح لا يصدر عنها إلا ما خطّته الأظافر الإبليسية في زمن عربي أكاد أقسم أن إبليس حقق فيه ما يقارب تسعين في المائة من وعوده وعهوده التي قطعها على نفسه في الأزل، منذ نزل صاغراً من مصاف ملائكة الملأ الأعلى، حاملا معه من الضغينة والحقد والمكر السّيّئ تجاه عباد الرحمن ما أخَذَه وحَمَلَه عنه هؤلاء، بقصدٍ وبغير قصد، وبعلمٍ وبغير علم، ليكونوا هم أنفسُهم، بعِباياتِهم وطَرحاتِهم وعِماماتِهم ولِحاهُم وسيلةَ إبليس المفضَّلةَ، وبوابتَهُ المشْرعَةَ على عقول البسطاء… وما نحن قطعاً مِن هؤلاء البسطاء !..

فمتى يَكُفُّ عنّا هؤلاء الخَلَف، الناهلُون من أباطيل ذلك السّلَف، مقولاتِهم المُبطِلة، وتلويناتِهم الإبليسيةَ الفاضحةَ، رغم محاولاتهم الفاشلةِ إلباسَها لباس الحق… لولا أنّ الله يُحِقُّ الحقَّ ويُزهِق الباطلَ ولو كَرِهَ كلُّ أبالسة هذه الأمّة البائسة وهذا العالَم!!!

     بقلم الأستاذ عبد الحميد  اليوسفي