الفيزياء الكمية.. والميكانيكا الكمية.. والتحليل الكمي… موضة جديدة؟!!

منذ سنوات لا تزيد عن الست أو السَّبْع، بدأنا نسمع الكثير، والكثير جداً إلى حد التخمة، عن العنصر “الكمّيّ” الماثل في العنوان أعلاه، ليس فحسب، كشعبة في مادة الفيزياء عامةً، أو فيزياء الفضاء أو الطاقة خاصةً، بل أيضاً كوسيلة لتبرير ما لا يوجد له أدنى مبرر معقول ومفهوم، حتى صرنا نسمع عن “الحاسوب الكمّي”، و”الذكاء الصناعي الكمّي”، و”التحليل الكمي” للظواهر الكونية والفضائية… (أفضّل بالمناسبة استعمال اصطلاح الذكاء “الصناعي” بدلا من “الاصطناعي”، لأن الأول يشكل الواقع، بينما الثاني يشكّل تَصَنُّعاً وتَكَلُّفاً للواقع)!..
بل إن بعض المتكلمين في هذا الموضوع تحدث عمّا سمّاه “لقاءً كمّياً”، في معرض حديثه عن الممكنات التي تتيحها تقنيات التأمل، مثل “اللقاء بين المرء وأناه العليا”، أو “بين عقلَيْه الواعي واللاواعي”، أو أيضاً “بين الوعي الإنساني ونظيره الكوني”… مجرد أسماء ومعان كائنة وقائمة منذ زمن بعيد، كنا نعبّر عنها بتوصيفات بسيطة منقولة من الأدب الصوفي، مثل “مقام الكشف” بلغة الصوفية، أو حالة “النيرفانا” أو “البارابرام” بلغة اليوغا، أو “الزهرة الذهبية” بلغة الطاو، أو أيضاً حالة “اليقظة التامة” أو “الساطوري” بلغة الزّن… فأصبحنا الآن مطالَبين بالولوج إلى عالم الفيزياء، في أعقد تجلياته وأدقّها، حتى يتسنى لنا أن نلامس لحظات الارتقاء العقلي والصفاء النفسي، المسمّى خطأً بالروحي، بواسطة جلسات تأمل وتركيز عقلي، كان الهدف منها في البداية ليس سوى التخلص من القلق، والأرق، والإجهاد النفسي المتفاقم بسبب طبيعة الحياة في هذا العصر الملتبس!!
لكن الجميل في هذه “الشؤون الكمية”، أنها تنتهي إلى ما سبق ذكره في الكتاب الحكيم، الذي نزل إلينا منذ خمسة عشر قرناً، بأن الكون أو الأكوان تتمتع هي الأخرى بالذكاء، وبنوع من الوعي الخاص بها، وبالتالي فامتثالها للقوانين الكونية، أو السنن الربانية، وهذا ما يرمز إليه اصطلاح “السجود”، لم يكن صدفةً أو اعتباطاً، بل لكونها تتوفر على معرفة قديمة وسحيقة مسجَّلة ومرتبة في ذراتها وفوطوناتها تجعل ذلك الامتثال نتيجة منطقية للكم المعرفي الكامن فيها منذ لحظة الخَلق الأولى!..
إنها نفس المعارف، أو بالأحرى المعلومات، التي نجدها في كروموزوماتنا وحامضنا النووي، فنُسَمّيها فطرة، والتي نعرف بواسطتها أن هناك رباً خالقاً، وإلهاً منفرداً يجب له الخضوع طوعاً أو كرهاً… والكره والطوع هنا تعبير عن ذلك التوثيق المسبق للمعلومة ذاتها، والذي نُسَمّيه في أدبياتنا “انجذاباً إلى الله وخضوعاً له بالفطرة”!!
من هنا نفهم كيف أن نظرية “الكمية”، التي ظهرت على يد الفيزيائي الألماني “ماكس بلانك” عند مطلع القرن الماضي (1900)، تقتضي الآن أن نتعرف على كل الموجودات، بلا أدنى استثناء، من خلال ذرات أو “كوانتات” عناصرها المكوِّنة، وأجزاء تلك الذرات، إلى الكواركات فأدقّ، لننتهيَ في آخر المطاف إلى تقارب يصل إلى حد الثماثل والتطابق بين “الإنسان الأكبر”، الذي هو “الكوسموس”، و”الكون الأصغر” الذي هو “الإنسان”، ونفهم بالتالي كيف أن الفلاسفة الأكابر أمثال المعلم أرسطو والشيخ أفلاطون كانوا يقولون “إن الطبيعة تنطبع في وعي الإنسان فتصير صورةً مصغرة طبق الأصل في إدراكه”!!
ها قد وصلت فكرة “الكمية”، اليوم، إلى القول إن الكون بكل مجراته ونجومه وكواكبه وأقماره مجرد صورة مكبَّرة للجهاز العصبي للإنسان، بل جاءوا بصور مذهلة التقطها المسبار العملاق وفائق التطوّر والدقة “دجيمس ويب”، يَظهَر الكونُ فيها متشكِّلا من شبكة أعصاب ونورونات ضوئية هي فعلا صورة طبق الأصل لما هي عليه داخل الجهاز العصبي للإنسان، بدءاً بالمخ والنخاع الشوكي وانتهاءً بالنورونات فائقة الصغر والدقة… وهكذا، أصبحنا نحن أيضاً جزءاً لا يتجزّأ من نظرية “الكمية”، التي بدأنا بها هذا الحديث على سبيل التفكّه، فإذا بها تلتصق بنا التصاقاً شديداً في مختلِف مجالات العلوم الدقيقة!!!
المشكل، الآن، أن كل مَن جاء بشيء جديد وغير مسبوق وبالتالي لا نظير له فيما فات، يطلق عليه وصف “الكمّيّ”، حتى سمعنا عن “عقل إلكتروني كمّي”، في وسعه تفكيك أي شفرة، وترجمة أي رمز كيفما كان مصدره، بل قدم لنا بعضهم “صيغة كمية” من هذا العقل الصناعي، قال إنها تستطيع ترجمة رسائل مشفرة قادمة من حضارات خارج منظومتنا الشمسية!!
ويبقى السؤال حرجاً ومؤرِقاً: “هل في وسع العقل الصناعي الإلكتروني أو الرقمي أن يصنع فعلاً لنفسه مقدرات وكفاءات لم يحصل الإنسان عليها بعد”؟! بمعنى: “هل يستطيع ذلك العقل أن يطور ذاتَه بفضل برمجة ذاتية يستمدها هو نفسه من الكوانتات الدقيقة الموجودة في ذرات المادة التي صُنِعَت منها الرقائق المُشَكِّلة لذاكرته وقاعدة بياناته ومعلوماته”؟!
بتعبير أكثر رُعباً ورهبةً: “هل يستطيع العقل الصناعي بواسطة العنصر الكمّي أن يصنع نفسَه ويستغني بالتالي عن صانعه البشري”؟!
إذا كان الجواب بالإيجاب، فما علينا إلا أن ننتظر دخول عصر يستلم العقل الصناعي فيه صولجان الخلافة… ورحمة الله ساعتئذ على ابن آدم…
من جهة أخرى: “هل يجوز تَحَقُّقُ هذا الكابوس تحت ظل المشيئة الإلهية”؟!
ذاك هو السؤال… أو بالأحرى، ذاك هو جوهر السؤال!!!
ذ. عبد الحميد اليوسفي
تعليقات 0