“العالم”.. “الفقيه”.. “الحافظ”…أي علاقة وأي ثقل في ميزان “العلم الحق”؟!!

إن العلم إلهيّ ربّانيّ، ورقميّ… ولأن الأرقام لا نهاية لها، فكذلك علم الله وكلماته… ولذلك لم يؤتَ الإنسان منه إلا القليل: “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا” (الإسراء-85)…

 لو كان الأمر بيد هذا العبد الفقير إلى عفو ربه، لحذفتُ من كل المعاجم لقب “عالِم”، ولوضعتُ بدلها لقب “فقيه”، لأن من نعتبرهم علماء، في مجالات علمية حقيقية، بحتة وتجريبية، ليسوا إلاّ فقهاءَ في مجالاتهم العلمية والمعرفية، التي تفقّهوا فيها بالدراسة والتجربة والمشاهدة والمعاينة والبحث والتحليل والفهم… وكل هذه تشكل وسائل العقل للسير في دروب العلم، التي تبقى كما سبق القول بلا أدنى نهاية!!

سيقول لي قائل: إن القرآن ميّز فئة أطلق عليها وصف “العلماء”، و”أولو العلم”، مما يؤكد على وجود تلك الصفة أو اللقب، وهذا قول لا يختلف عليه اثنان إلاّ أن يكون أحدهما جاهلا او معتوهاً!!

بيد أنّ هناك ملاحظة في غاية الأهمية، وهي أن القرآن جعل شرطاً يندر أن نجده عند من نسمّيهم في ثقافاتنا “علماء”، وهو شرط قرآني وليس إبستيمولوجياً: المعرفة برب العزة معرفةً تتحقق بها الخَشية… “وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ” (فاطر-28)!!

إن هذا يحيلنا على العديد مِمَّن نسميهم “علماء” بينما هم أكثر إلحاداً من غيرهم، وهذا هو الإلحاد بعلم، أو نجدهم متشكّكين وتائهين بين الحقيقة والوهم، وبين النور والظلمات، رغم وصفهم العلمَ بكونه نوراً، وبكون الحق جل وعلا “نورَ السماوات والأرض”… وبالرغم من ذلك، يركنون إلى الظلمة فرحين بما حققوه من السبق العلمي والمعرفي المحسوس والملموس على غيرهم… وهنا بيت قصيد هذه المعضلة: 

ذلك أن “العالِم” في ثقافاتنا إنما اكتسب ذلك اللقب بالقياس مع غيره فقط لا غير، وليس مكتسباً إيّاه في حد ذاته هو على انفراد، لأن هذا المقام من العرفان لا يستقيم ويتحقق إلا لمن استوفى الشرطين الأساسيين سالفَيِ الذكر: “معرفة الحق”، و”الخشية من بأسه بناء على تلك المعرفة بالذات”… فكم لدينا في هذا العالَم الشاسع من علماء من هذا العيار الثقيل؟.. آحادٌ نادرون في كل عصر وليس أكثر!!

لهذا، أفضّل شخصياً، وبكل تواضع، أن نكف عن إطلاق لقب “العالم” على كل من نأنس فيه تفوُّقاً بالقياس مع قدراتنا نحن، وأرصدتنا نحن، العلمية والمعرفية المحدودة، لأنه كما قال العليم الخبير مطلق العلم والخبرة “… وفوق كل ذي علم عليم” (يوسف-76)، وبالتالي فإنه لا تستقيم أن نطلق نحن، الأقل علماً ومعرفةً، لقب “العالم” على إنسان لمجرد استكبارنا لشأنه واستصغارنا لشأننا بالقياس إليه، لأن فعلنا والحالة هذه يفتقر أساساً إلى العلم والخبرة والحكمة اللازمة للاستئثار بمنح ذلك اللقب وتوزيعه من لدننا على الأغيار، مهما اعتقدنا بأهليتهم للتمتع بتلك الصفة او ذاك اللقب!!

معنى هذا كله، أن الذي يستحق لقب “العالم” ينبغي بالوجوب أن يقوده علمه إلى “معرفة ربه معرفةً تُورِثُه الخَشية من بأسه وعظمته”، وإلا فهو مجرد “عالم” بمقاييسنا نحن، غير العلماء، وأعتقد أن الفكرة واضحة بما فيه الكفاية!!

حسناً… فمن هو “الفقيه”؟

الفقيه تحديداً هو الذي خَبَرَ مجالا من المجالات المعرفية أو الثقافية من خلال تجلياتها في الواقع المُعاش، خبرةً كافيةً لجعلِه قادراً على استخلاص القواعد أو القوانين التي تخضع لها الظواهر الكونية، أو الطبيعية، أو الإنسانية، التي تدخل في المجال ذاته… لذلك فلدينا فقهاء في الشريعة، وفي القانون، وفقهاء في الاقتصاد والصناعة والتجارة والمال والأعمال والخدمات… الخ، يستقرئون تجليات الواقع في هذه الظواهر والمجالات، فيستخرجون لنا من ذلك ضوابط سلوكية، وقواعد قانونية، تحكمها وتنظم علاقاتها، فيما بينها من جهة، ثم بينها وغيرها من المجالات والظواهر من جهة ثانية…

إن وصف أو لقب “الفقيه”، بهذا المعنى الواقعي، الخاضع للتجربة والخبرة والمعايشة، يمكن إسباغه بلا أدنى حرج على مَن نسميهم خطأً “علماءَ” دينٍ أو شريعةٍ، وإن هم إلاّ “فقهاء” ولكن، ليس لمجرد معرفتهم مثلاً بالقرآن والسنة والحديث واللغة وتراث السابقين، بل بشرط توفّقهم في أداء “مهام الفقيه”، المشار إليها في التعريف أعلاه. 

ليس كل حافظ “فقيه”، ولا حتى كل باحث ودارس ومؤلِّف “فقيه”، وإنما الشرط أن يخرج إلينا من دراساته وبحثه وكتاباته وتآليفه بما أمكنه استنتاجُه من القواعد والضوابط، ولذلك يبدو هذا المقام أكثر جلاءً وتميُّزاً في مجالات القضاء والقانون، لأن القضاء والقانون يمتحان أسباب ووسائل تقدّمهما وتطوّرهما وتحيينهما من تجارب الواقع وتجلياته في العلاقات والمعاملات، وكذا فيما ينشأ عن هذه في العادة من مسائل ومشاكل ونزاعات، مردُّها إلى التحوّل والتطوّر المجتمعيَيْن، اللذين يدفعان الفقهاء دفعاً شديدا إلى استنباط قواعد وضوابط وقوانين جديدة أو محيَّنة… هؤلاء هم “الفقهاء” في مختلِفِ مجالات حياة الدول والأمم والمجتمعات!!

طيّب… فمن هو “الحافظ”؟

بدايةً، من غريب أحوال أمتنا البئيسة أن هذا اللقب يعتبره المؤرخون والخائضون في شؤون العالمَيْن العربي والمسلم بمثابة “أرقى وأعلى الألقاب والمراتب”. وهذا وحده كافٍ لإثارة الضحك والسخرية والرثاء في آن واحد، لماذا؟! لأن مَن يحفظ المصحف مثلاً عن ظهر قلب، ويحفظ معه آلاف الأحاديث المروية، ومعها قواعد اللغة والبلاغة والنحو والصرف، والقصائد المنظومة فيها، ويحفظ مع كل ذلك دليل الخيرات، وكتاب “الرحمة في الطب والحكمة” وغيره من “الكتب الصفراء”، ويحفظ المجلدات المؤلّفة في العبادات والمعاملات مثل نواقض الوضوء ومستحباته، وكذلك في الصلاة والصيام والزكاة والحج… وكل ذلك وغيره، حفظاً عن ظهر قلب، لا يختلف عما يقوم به أبسط جهاز تسجيل صوتي أو تخزين رقمي في أيام الله هذه!! 

هذا الحافظ، لا يسعه أن يقدم لنا أي قيمة مضافة، ولا حتى لذاته، إن لم يكن مستثمِراً كل تلك المحفوظات في استنباط أو تطوير أمر يَنتفِع به غيرُه، فإن لم يفعل فإنه لا يكون مختلفا عن ببغاء، أو في أحسن الأحوال عن جهاز تسجيل بالصوت، أو آلة تخزين بالأعداد والحروف والكلمات، وحتى هذا النوع من الحفظ والتخزين الإلكترونيَيْن لم تعد الحاجة ماسةً إليه في عصر “الآي إي” (IA) أو الذكاء الصناعي، الذي صار يبحث ويدرس ويحلل ويستقرئ ويستنتج ويستنبط ويقدم لنا الخلاصات والنتائج في أعشار الثانية خاليةً، تقريباً، من هوامش الخطأ أو السهو أو ما شابَهَ!!

انطلاقاً من هذا الواقع، الملموس والمعاش، كتبتُ ذات مقالٍ سابق بأن يافعاً في بدايات شبابه يمكن أن يكون أنفع من علماء وفقهاء وحُفّاظ السلف، بمجرد إمساكه هاتفاً ذكياً يَصِله مباشرةً بكل مكتبات العالم، وإنتاجات كل فقهاء العالم، بمن فيهم “علماءُ” العالم “الحقيقيون” على قلتهم، بل على نُدرتهم، بالمفهوم السالف ذكره لوصف “العالِم”… فأين هم “حفّاظ” تاريخنا المتواضع من هذه الوسائل المعرفية والإمكانيات الرهيبة والمُبهرة، والأكثر من ذلك، النافعة إلى أقصى حدود النفع والإفادة؟!!

خلاصته… إن عصرنا الراهن لم يعد يقبل بإطلاق تلك الألقاب وتوزيعها ذات اليمين وذات الشِّمال كما كان عليه الأمر من قبل… بل قد صار الواجب يحتم علينا الانتباه، بكل التركيز الممكن والمتاح، إلى الموضوعات والمتون، وليس مطلقاً إلى الأشخاص، بعد أن صارت العلوم والمعارف عاريةً تصيح بالصوت والصورة في وجه كل طالبٍ: “هيت لك”، دون أدنى حواجز أو معوّقات، ولا حتى فوارق بين الجنسيات والأجناس والأعمار والأنواع واللغات والثقافات، بكل ما يعنيه ذلك التعبير القرآني، “هيت لك”، من معان ودلالات ونهايات… فسبحان الله أحسن الخالقين!!!

    بقلم ذ. عبد الحميد اليوسفي