وأنت تسير في شوارع باريس، احذر من أن تدوس كلبا، فقد يعضّك صاحبه

مقال طريف ممتع وهادف للأستاذ الزميل أحمد الميداوي، نتشرف بنشره بطلب منه حتى تعم الفائده.. قراءة ممتعة
——————————————————————————————–
من كان يصدق أن يتم استبدال عبارات تبادل التحايا والتعبير عن الشكر بحركات “هز الذيول”. حدث هذا بالفعل بأحد الفنادق الضخمة في قلب العاصمة الفرنسية باريس التي احتضنت يومي 4 و5 شتنبر الجاري، المعرض الفرنسي للكلاب في دورته الرابعة والثلاثين. فقد لقيت الكلاب “المحظوظة” في هذا الفندق من العناية والاهتمام، ما يزيل جميع ملامح العبوس و”تكشير الأنياب”. كما حظيت بمعاملة كبار الشخصيات، بدءا من السير على السجاد الأحمر عند وصول الفندق، ومرورا بالخدمة لأربع وعشرين ساعة داخل غرفها، والاستحمام في أحواض معبأة بمياه دافئة معطرة، وانتهاء بزيارة صالونات التجميل داخل الفندق، فضلا عن استمتاعها بأطيب أطباق الطعام وألذّها.
ويحتوي كل جناح خاص بالكلب على سلة نوم مزودة بفراش ناعم وثير، وأطباق طعام وأواني معدنية للشرب. كما يتاح له مشاهدة النسخة الفرنسية من فيلم “كوكب الحيوانات”، قبل أن تأخذه سيدته لغرفة الاستحمام.
والحقيقة أن الكلاب كانت تعيش من قبل حياة “كلبية”، أما اليوم فهي تحظى بنفس الخدمات والحقوق المخولة للإنسان، من تامين وضمان اجتماعي وتعويضات عن الوفاة وغيرها. وتعمقت شيئا فشيئا مكانة الكلب الاجتماعية في فرنسا، نتيجة تزايد نسبة العجزة، وتراجع قيم التلاحم العائلي، وكذا العزلة حيث كل في بيته غريب عن محيطه، يسعى إلى خلق مناخه الخاص المستقل كليا عن الآخرين، والبعيد عنهم أيضا.
ففرنسا التي تحضن حوالي عشرة ملايين من “النباحين”، وتسعة ملايين من “الموائين”، هي البلد الأول في العالم من حيث الحيوانات الأليفة، ومن حيث النفقات المرتبطة بها، والتي تجاوزت سنة 2024 أربعة مليارات أورو /أزيد من 42 مليار درهم/، وهو ما يكفي لتغذية مئات الآلاف ممن يموتون جوعا كل يوم في إفريقيا وآسيا، وجهات أخرى من العالم.
فصديقنا الكلب لم يعد يكتفي بفتات المائدة، بل يشترط غداء غنيا ومتنوعا تتوفر فيه شروط اللذة والتوازن الصحي معا، حيث هو اليوم أسعد حظا، وأرغد عيشا وأهنأ بالا من كثير من الآدميين.
وأنت تسير في شوارع باريس، احذر من أن تدوس كلبا، فقد يعضك صاحبه. وقد ذهب المجلس البلدي في المدينة، إلى حد وضع آنية للماء الشروب بعدد من الشوارع، كتب عليها خاص بالكلاب. إلا أن أحد الطرفاء أضاف إلى ما كتب: “التي تعرف القراءة”. ولتغوّطه، جهزت له بلدية باريس مراحيض خاصة بعدد من نقط المدينة. والكلاب الفرنسية أصبحت اليوم جزءا من الأعباء الزائدة على أصحابها، المرغمين يوميا على التنزه بها وهي في أبهى إطلالتها، من أحذية دافئة ومعاطف صوفية ناعمة في الشتاء، وقبعات مطرزة ونظارات ملونة، للاحتماء من وهج وأشعة الشمس في المصيف.
كما انتعشت بشأنها تجارة التجميل من محلات للأناقة الكلبية وصالات للحلاقة، في انتظار أن ينعم عليه مالكه بشريكة لعقد القِران وحفل العقيقة. وعندما تنتابه حالة قلق أو اكتئاب، تهمّ العائلة مذعورة إلى الأخصائي لمعرفة السبب، حيث يوجد اليوم بفرنسا حوالي 80 طبيبا أخصائيا في سلوك الكلاب، مهمتهم طرح أسئلة محددة على أصحابها للتيقن من مصدر الداء، وتقديم وصفة ذات فاعلية له.
وقد فتحت المدرسة البيطرية بباريس مؤخرا مركزا لتحاقن الدم، يمكّن الكلاب من التبرع بالدم لفصيلتها.ولأن ما يزيد عن ثلثي العائلات الفرنسية تملك ابنا إضافيا هو الكلب، فقد باشر طب الكلاب إلى خلق كل التخصصات “الكلبية” من أمراض القلب والمسالك البولية إلى العيون والجلد والأسنان وحتى الطب الاستعجالي وغير ذلك من التخصصات … ويتراوح معدل النفقات المخصصة للكلب الواحد في فرنسا ما بين 2000 إلى 3000 أورو سنويا (حوالي 22 ألف إلى 32 ألف درهم) بالنسبة للعائلات الميسورة، أي ثلاثة أضعاف الدخل السنوي المتوسط بالبلدان النامية.
ومقابل هذا الاعتناء المفرط، لا يترك النبّاحون فرصة تضيع دون أن يفتكوا بأشخاص أبرياء. فالاعتداءات “الكلبية” تعد بالآلاف سنويا وتأتي بالخصوص على الأقرباء، حيث أقرت وزارة الصحة الفرنسية أن 63 في المائة من المستهدفين، هم إما من أفراد العائلة أو جيران أو أصدقاء. كما أن 40 في المائة من الضحايا، هم أطفال من دون الرابعة عشرة من العمر.
ولا يُستثنى قطيع الخرفان من القاعدة، حيث كشف المركز الفرنسي للدراسات البيطرية والأغذية أن الكلاب الضالة تأتي سنويا على عشرات الآلاف من الخرفان، ورقم هائل من الطيور معظمهم من الدجاج.
وأمام هذا الوضع الذي يثير التقزز والتذمر في أوساط مربي الماشية، تأخذ وسائل الإعلام على الساسة موقفهم السلبي والمتناقض أحيانا أمام استفحال الظاهرة. غير أنه في بلد ينتصب مواطنوه في مقدمة مالكي النبّاحين في العالم، يحتار أصحب القرار لأي حيوان يميلون، الإنسان أم الكلب.
وتلهّفا منهم لأصوات الناخبين، يحرص الساسة على ألا يغضبوا الكلاب بإجراءات عقابية، يقينا منهم أن هاته المخلوقات، هي في واقع الأمر أسياد سادتها. ولسنا ندري هل سيتجرأ الرئيس ماكرون الذي يملك هو الآخر كلبا من فصيلة ألمانية، على استصدار قانون يحد من الاعتداءات “الكلبية”، أو على الأقل من انتشار النجاسات التي يخلفها على أطراف الأزقة والشوارع الفرنسية.
الأكيد أن هذا البند لم يكن واردا في حملته الانتخابية السابقة ولا في حملات من سبقوه. ربما رفقا بها أو خشية من تكشير أنيابها.
ويكفي الكلاب فخرا أن أول من قام بجولة في الفضاء ودار حول الأرض هي الكلبة “لايكا” التي أطلقها الروس في قمر صناعي.
تعليقات 0