يااااااه.. كم نحن متخلفون.. ومُختَلّون.. وفي قمة التدنّي!!

بالصدفة، والصدفة في مثل هذه المواقف تحكم كثيراً، طلع عليّ عبر اليوتوب فقيه أزهري، إمام مسجد بأرض الكنانة، (يا حسرة على “أرض كنانة العلم والثقافة والمعرفة”) التي تربينا نحن جيل الخمسينات والستينات على أيدي أساتذتها الأكابر، كان يخطب في الملتقّين المحلّقين حول منبره ويقول بالحرف: من الناس مَن يحف شعر رأسه من الجوانب ويترك شعر أمّ رأسه كثيفاً، ومنهم من يحف الشعر في أعلى الرأس ويتركه على الجوانب كثيفاً، والفعلين معاً غير مستساغيْن “شرعاً” (!!!).
أولا: هذا الرجل نصب نفسه ناطقاً باسم شرع الله، ونحن نعلم أن الله لم يتخذ للتعريف بشرعه إلا ناطقاً واحداً باسمه بعد موسى وعيسى، هو الرسول محمد بن عبد الله، ولا ناطقَ رسميَّ غيرُه. فهل معنى هذا أن الأزهر طفق في منح رخص السفارات الإلهية لِخِرّيجيه في غفلةٍ منا، نحن المحسوبون على هذه الأمة؟!!
ثانيا: هذا “الشيخ” الذي أنفقت الخزينة العامة المصرية عليه وعلى أمثاله الشيء الكثير، أو كما يقول إخوانُنا في مصر: “شيء وشْوَيّات”، ثم منحوه منصبا ماليا يتلقى من خلاله راتبا شهرياً دسماً، بالقياس مع معدل الأجور في أم الدنيا، لا يستعمل عقله وتجربته المعرفية والفقهية في تيسير فهم أحكام الشريعة على البسطاء المحيطين بمجلسه، بل ليستثمرها في الخوض فيما لا معنى له ولا فائدة منه ولا منفعة، فيُضِلَّ بذلك كلَّ مَن حَوله!!
أي علاقة للشريعة بحلق شعر الرأس بالتساوي أو بالتفاوت بين وسط الرأس وقمته وجوانبه يَميناً ويَساراً وأَماماً ووَراءً؟!
ولماذا ينبغي أن يكون هناك حكم للشرع في ذلك النوع من الحلاقة كما يراها هو، لا كما جاء في أحكام الشرع تحديداً؟! إذِ الرجل والحالة هذه لا يعرف شيئا عن شرع الله، ولا يعرف ما هو شرع الله أساساً، وهنا تكمن المعضلة، لا أقول الأزهرية حصراً، بل هي على النحو ذاته في مختلف معاهد ومراكز التعليم الديني من شمال العالم المسلم إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، وبصورة أخص وأكثر فداحةً وهواناً، في الوطن العربي من محيطه إلى خليجه… و”المية تكذّب الغطّاس” كما يقول أيضاً إخواننا في تلك الأرض الفيحاء!!
ثالثاً: هذا الذي يقع بكل هذه الرداءة القياسية، تمتلئ به قنوات التواصل الاجتماعي، وللااجتماعي، دون أن تتحرك أي جهة في هذا البلد أو ذاك، ليس لمعالجة الظاهرة، لأن “فاقد العلاج لا يعطيه”، وإنما لوقف استفحالها بين شيوخ لم نعد نعلم السبب في تخريجهم أصلاً، إذا كان هذا مبلغ اجتهادهم، مع العلم بأن متتبّعيهم مازالوا للأسف الشديد معدودين بالملايين في كافة فضاءات العالم العربي، ونظيره المسلم، وإن كنت شخصياً أستبعد أن يتساهل المسلمون خارج الوطن العربي مع مثل هذا الرُّخْص، والتدنّي، والسقوط في الفهم والفكر والقول… والنماذج المنيرة القادمة إلينا من ثقافات بلدان مسلمة مثل ماليزيا والباكستان غنية عن أي إطناب!!
وبالصدفة أيضاً، وقد صرتُ أخشى الصدفة وأرتعب منها لارتباطها دائما بمثل هذه المفارقات التي أستطيع وَصفَها بالفضائحية، وقفتُ على سؤال، استثنائي بكل المقاييس، ألقاه شيخ فقيه آخر، إمام هو الآخر، عبر إحدى حلقات التواصل الرقمي، من باب تحفيز مستمعيه على تخمين الإجابة، الشرعية بطبيعة الحال، جاء فيه: “كيف نحلّ معضلة أناس كانوا يستحمون بأحد الشواطئ، فلما أدركتهم الصلاة اكتشفوا أن ملابسهم تعرضت للسرقة، ولم تنج منها سوى عباءة أحدهم لم ينتبه إليها اللصوص… هل يُصَلّون بالتناوب بتلك العباية؟ أم يصلي بهم صاحب العباية إماماً ويؤدون صلاتهم وراءه وهم مغمورون بماء البحر حتى لا تنكشف عوراتُهم؟ أم ماذا؟!!
في الواقع، أعترف بأنني حاولت للوهلة الأولى أن أفكر في تلك الورطة وأن أجد لها حلاًّ شافياً، لولا أنني اكتشفتُ للتّوّ أنني بذلك كنت سأنضم إلى ضحايا ذلك الشيخ الأبله، وأتحول بالتالي إلى مُتَلَقٍّ أشدّ منه بلاهةً وغباءً، وإن كنت في قرارة النفس أشكره لأنه أثار لديّ اندفاعاً شديداً إلى الكتابة في هذا الموضوع، وإلى الشروع رأساً في البحث عن موضوعات مماثلة لا يعود للصدفة فيها أي دور، لأن ظاهرة الخواء الفكري والعقدي والأخلاقي، هذه، غزت فضاءات التواصل بكثافة تستحق أن توصف بالمرعبة والرهيبة… وتستحق بالتالي البحث عن “دُرَرِها” بغاية الفضح والتبخيس!!
ولأن “المستحيل ليس مغربياً” كما يقول أدباء الفيسبوك واليوتيوب والأنستغرام والإكس المغاربة… فقد ألفيتُ نفسي ذات صبيحة وجها لوجه مع شيخ مغربي، من الشباب، من ذلك النوع الذي يثير لديّ شخصياً حالة من الحساسية الشديدة، أحمد الله أنها لم تتطوّر بعد إلى أعراض الإكزيما والبثور والحكّة، كان يتكلم عن محبته شخصياً للنبي محمد وصلاته عليه في كل وقت وحين، وكان يتشدّق بذلك حتى قال بعظمة لسانه: “إن مجرد ذكر اسم محمد ينبغي أن يُثير في نفس وقلب المتلقي من التعظيم والتقديس ما لا تطيق الكلمات التعبير عنه، وأن تجعله يلهج بالصلاة عليه بالفكر والعقل واللسان والجوارح…” وكلام آخر من هذا الضرب يجعل للرسول مكانة أرقى وأكبر وأعظم من الرسالة ذاتِها، والتي هي أساس ومنبع التقدير الواجب لشخصه، بل أكبر واعظم من التقديس والتعظيم والتبجيل الواجب لصاحب تلك الرسالة وخالقها، سبحانه وتعالى عن هذا النوع من الشرك البَواح!!
بيد أن الذي أصابني بالذهول أمام هذا النموذج، المغربي القحّ، هي تلك الحالة التي كانت تتقمّص ذلك الشيخ، بالتدريج، لِتُحَوِّله بين بداية قوله ونهايته إلى مجذوب، مغرورق العينين، تائه النظرات، متسارع الشهيق والزفير، حتى خِلْتُ أنه سيقع من طوله في حالة صرع قد لا يستفيق منها أبداً… كل ذلك في معرض تعبيره عن حبه للنبي حُبّاً أراده أن يكون أكبر وأعظم من أي شكل آخر من أشكال هذه العاطفة الراقية والهادئة والرزينة!!!
هل هذا هو شرع الله، وهو الإسلام، وهو زبد التعبير عن حب رسول حبّاً وجب له مِن أجل رسالته، ومن أجل عظمة وجلال مَن كلّفه بذلك العبء الجسيم؟!!
أترك لكم الرد… لأن الكيل قد طفح بهذه الطفيليات التي هي عين السبب الأساسي والحقيقي فيما يكيله غيرُ المسلمين لهذا الدين القيّم من نقد وتسفيه وتشويه يبقى دين الله منها جميعها براء!!!
بقلم الأستاذ عبد الحميد اليوسفي
تعليقات 0