تجّار الدين مرة أخرى…أحقّاً يحدث هذا في هذا القرن وهذه الألفية؟!!

تملأ شاشات النّتّ عبر الحواسيب والهواتف الذكية، هذه الأيام، وصلات إشهارية تُقدِّم لنا آباءً يُفاجئون أطفالهم منخرطين بكل عفويةٍ في التفرج على فيديوهات، أو أفلام كارتونية، أو أي برامج أخرى ترفيهية، فيسأل الأب ابنه ما هذا الذي تفعله يا ولدي؟ فيجيبه الطفل ببراءته وفطرته بأنه يتفرج على شيء ممتع أو مُضحك، فيرد الأب عليه بأنه ينبغي أن يترك ذلك ويبتعد عنه نهائياً، ثم يقدم له مفتاح “يو إس بي” USB يحمل قراءات قرآنية وتفاسير ونصائح وإرشادات دينية، ثم يقول له الأب إنها أنفع وأضمن لحياة طيبة يظللها رضوان الله في الدنيا، وتختمها الجنة في الآخرة… وكلام آخر من هذا القبيل، وهذا كلام يختلط فيه الباطل بالحق، لأنه يرى نصف الكأس ويغفل عن نصفه الآخر… وحتى لا أغفل ملاحظةً في غاية الأهمية، فالأب دائماً ما يكون ملتحياً ومرتدياً العباءة إيّاها، وعلى رأسه طرحة، أو طاقية بيضاء، وربما تدلّت في إحدى يديه سبحة مرصّعة، دليلاً على الورع والتقوى!.. 

أين نحن الساعة؟.. أقصد، في أيِّ عصرٍ وأيِّ قرنٍ وأيِّ الألفيات؟!!

تذكّرني هذه الوصلات الإشهارية، التي تعلن بغباء منقطع النظير عن إنتاج وترويج وسائط ممغنطة ومندمجة من صنع إحدى الجماعات السلفية، أو احد السلفيين المتاجرين بهذا النوع من الحوامل والأكسسوارات الدعائية الإلكترونية والرقمية، تذكّرني هذه الوصلات، بحالة أولئك الأطفال الأبرياء الذين أجبرهم آباؤهم وأولياء أمورهم على نزع رداء الطفولة البريئة وتقمّص “دور الأئمة”، فدفعوا بهم إلى إمامة الصلاة في مساجد هامشية من تلك التي دأبت على تفريخ الدواعش منذ طفولتهم الصغرى، وحرمانهم بالتالي من طفولتهم بعفويتها، ولعبها النقيّ الطاهر، وشقاواتها البريئة… 

والنتيجة؟ كما أكدتُ على ذلك في مقال سابق خصصتُه لهذه الظاهرة: لا صلاة مقبولة لأن إمامتها باطلة، ولا طفولة احتُرِمَتْ طفولتُها، ولا تديُّناً واضحَ المعالم والمقاصد والنهايات… باختصار: مضيعةٌ للوقت والجهد عند المصلين، وضياعٌ للعمرِ والفهمِ والتَّمَثُّلِ للدنيا وحقوقها وواجباتها عند صبيان أبرياء، لا ذنب لهم، سوى أنهم وُضِعوا في المكان غير المناسب في الوقت غير المناسب!!

تُذكّرني هذه الوصلات الإشهارية الغبية والوصولية والانتهازية، أيضاً، بإعلانات ظهرت هي الأخرى في الأشهر القليلية الماضية، تدعو إلى اقتناء كتب يقول الداعون إليها إنها تساعد على “تدبّر القرآن (!!!) بينما الأمر في حقيقته لا يعدو أن يكون صناعة سلفية، قديمة بكل تأكيد، ولكنها متجددة ومحيَّنة من حيث الأغلفة والعناوين، دون الحمولات الأصولية المعروفة، لجأ إليها هؤلاء الأدعياء بعد أن تيقّنوا من انهزامهم أمام المد التنويري المتنامي بين مثقفي هذا العصر، والرامي إلى ترسيخ “مبدأ التدبّر والتفكر”، من أجل تحقيق فهم علمي وعقلاني للتنزيل الحكيم، الذي نزل أساساً ليخاطب الأحياء لا الأموات، وليحفّز العقول على إعمال العلم والمنطق في الفهم والعمل، بدلا من الاعتماد الكلي على ما تركه الآباء عملا بالمنطق المغلوط الذي مفاده: “هذا ما وجدنا عليه آباءنا وإنّا على آثارهم مهتدون”، وهو المنحى الذي ذمّه القرآن في أكثر من آية، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولا يعقلون، ولا يفقهون!!

 المهم، الآن، أننا بإزاء دعوة مُغرِضة وخبيثة لأنها من جهة، تتسربلُ كَذِباً وافتراءً بأردية الدين والتقوى والوَرَع، ومن جهة ثانية، وهي الأخطر، لأنها تخاطب أطفالاً في عمر الشرانق والزهور، تغتال طفولتهم، وتهدر براءتهم، تحت مُسَمَّى “التربية الإسلامية السليمة”، لأن أصحاب هذه الدعوة ووصلاتها الإشهارية الفاضحة لا تهمهم براءة الأطفال، ولا طفولتهم المهددة بالاغتيال المقصود، بقدر ما يهمهم ترويج مفاتيح “اليو إس بي” والاقراص المدمجة، وباقي الحوامل المتضمِّنة لما يسمّونه إرشاداً وتربيةً إسلاميةً أصيلةً، و”تصحيحاً لأخطاء التربية العصرية”، التي من شأنها أن تجعل الأطفال يعيشون عصرهم وقرنهم وألفيتهم، وليس العصورَ والقرونَ والألفياتِ الفائتة!! 

حوامل حديثة بمكونات عصرية حداثية، ولكنها ذاتُ محتوَى بائد من عصور ولّت وولّى أهلها ومُهندسوها إلى غير رجعة!!

يقول تعالى: “تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (البقرة-134)… 

متى إذَنْ يستفيق هؤلاء المرضى، ويتركون أطفالنا يعيشون طفولتهم بما لها وبما عليها، ويعيشون براءتَهم، وفطرتَهم، بدلاً من جرّهم جرّاً مقصوداً ومُبَيَّتاً إلى الوراء من أجل بيع وترويج حوامل غير خاضعة لأيِّ مراقبة بيداغوجية، ومن أجل تحقيق منافع مالية دنيوية متخفّية تحت أردية النصح والإرشاد؟.. والأهم من هذا، متى يتم إخضاعهم للمساءلة من هذا المنطلق الواضح وضوح شمس الظهيرة؟.. ذاك هو السؤال!!!

  بقلم ذ. عبد الحميد اليوسفي